د.عبدالله بن موسى الطاير
أحدثت الطائرات بدون طيار تحولاً جذرياً في الحروب الحديثة، مُبشرةً بعصر من الصراعات المدمرة منخفضة التكلفة، تتحدى فيه المسيرات الرخيصة النماذج العسكرية التقليدية. بعد أن كانت الطائرات بدون طيار حكراً على الدول الغنية ذات الميزانيات الدفاعية الضخمة، أصبحت اليوم متاحة للدول الغنية والفقيرة على حد سواء. يبرز الفارق النوعي الذي أحدثه هذا النوع من التسلح أن الحصول عليه ميسر من خلال شراء نماذج جاهزة، أو تجميعها من أجزاء، أو تعديل الأجهزة ذات الاستخدام المزدوج، وبذلك تعمد الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية لتوظيف تكنولوجيا المسيرات للتهرب من الرقابة الحدودية والعقوبات الدولية، مما يُشكل تحديات جسيمة للأمن والسلم العالميين.
يُعد تفشي تكنولوجيا المسيرات وسهولة الحصول عليها أحد أبرز سماتها؛ فقبل عقد من الزمان، كانت الطائرات بدون طيار المتطورة، مثل بريداتور الأمريكية، التي يبلغ سعرها حوالي 4 ملايين دولار، رمزاً للهيمنة التكنولوجية للجيوش الغنية، أما اليوم، فيُمكن تجهيز طائرة رباعية المراوح متوفرة تجاريًا بتكلفة أقل من 1000 دولار بمتفجرات تُقدر قيمتها ببضع مئات من الدولارات، واطلاقها على هدف يبعد مئات الكيلومترات. حطمت هذه القدرة على تحمل التكاليف حواجز الاقتناء، مما مكّن حتى الدول التي تعاني من ضائقة مالية، والجماعات المتمردة من استخدام الطائرات المسيرة في القتال.
وفي حين تواصل الدول الصناعية مثل الولايات المتحدة والصين تطوير الطائرات المسيرة المتطورة لأغراض المراقبة والضربات الدقيقة، فإن الثورة الحقيقية تكمن في انتشار الطائرات المسيرة الرخيصة والقابلة للتكيف والتي يُمكن لأي شخص اقتناؤها وتفخيخها ومن ثم تسييرها باتجاه خصومه.
النزاعات المعاصرة كتبت شهادة ميلاد جيل من الأسلحة رخيصة الثمن، يتطلب إيقافها أسلحة متطورة بملايين الدولارات.
في الحرب الروسية الأوكرانية، مثلا، سخّر كلا الجانبين الطائرات المسيرة في حربهما. عرقلت طائرات بيرقدار الأوكرانية التركية الصنع التقدم الروسي، بينما اعتمدت روسيا على طائرات شاهد الإيرانية بدون طيار لمواصلة حملتها على الرغم من العقوبات الغربية. سمحت هذه الطائرات المسيرة، الأرخص بكثير من المعدات العسكرية التقليدية، لكلا البلدين بالحفاظ على زخمه في حرب استنزاف شاقة، مما يثبت أن الطائرات المسيرة قادرة على إحداث تأثير يفوق وزنها.
من جانب آخر، أصبحت الطائرات المسيرة، إلى جانب تكلفتها المعقولة، أداةً للالتفاف على القيود الدولية، حيث لجأت الدول الخاضعة للعقوبات، إلى الطائرات المسيرة لتعزيز ترساناتها دون الخضوع للتدقيق الذي يصاحب صفقات الأسلحة التقليدية. ومن خلال الحصول على مكوناتها عبر سلاسل توريد غامضة أو إعادة استخدام الطائرات المسيرة المدنية - المصممة أصلاً للزراعة أو الخدمات اللوجستية أو الترفيه - تستغل الدول الطبيعة المزدوجة لهذه التكنولوجيا، وتوظفيها في غير ما أنتجت له، وهذا يجعل تنظيمها مهمة شبه مستحيلة، إذ يتلاشى الخط الفاصل بين التطبيقات السلمية والعسكرية.
الأمر لا يتوقف على الدول، بل تمتد التداعيات إلى ما هو أبعد من الجهات الحكومية. فقد تبنت الشبكات الإجرامية والمنظمات الإرهابية الطائرات المسيرة لتحقيق أغراضها الخاصة. ففي عام 2018، نجا الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو من محاولة اغتيال بطائرة مسيرة، وهو مثال مرعب على كيفية إعادة استخدام الطائرات المسيرة لأغراض العنف السياسي. وفي الوقت نفسه، استخدمت عصابات المخدرات الطائرات المسيرة لتهريب المخدرات عبر الحدود، مستغلةً قدرتها على التحليق على ارتفاع منخفض وتجنب الكشف.
تُبرز هذه الحالات حقيقةً مُقلقة، فالطائرات المُسيّرة لا تُعيد تشكيل الحروب فحسب، بل تُقوّض الآليات المُصمّمة لحفظ النظام العام.
تُعدّ سهولة الوصول إلى الطائرات المُسيّرة نعمةً ونقمةً في آنٍ واحد، فبالنسبة للدول الأضعف، تُوفّر الطائرات المُسيّرة وسيلةً للدفاع عن النفس ضدّ المُعتدين الأقوى، مُهيّئةً بذلك ساحةَ تنافسٍ لطالما هيمنت عليها القوى العسكرية العظمى، ومع ذلك فإنّ سهولة الوصول هذه تُهدّد بتصعيد الصراعات وزعزعة استقرار المناطق، ليس في تدشين الحروب الخاطفة فحسب، بل تُتيح التكلفة المنخفضة للطائرات المُسيّرة خوض حروبٍ طويلة الأمد بموارد محدودة. وبينما يُعقّد استخدامها في العمليات السرية والحرب غير المتكافئة جهود حفظ السلام. تملأ أسرابٌ من الطائرات المُسيّرة الرخيصة والقاتلة السماء الآن، كلّ منها قادرٌ على حمل حمولةٍ متفجرة - وهو أمرٌ بعيدٌ كلّ البعد عن عصر الطائرات المُقاتلة باهظة الثمن والفرق المُدرّعة بكثافة.