د. سفران بن سفر المقاطي
في العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم، حيث أصبحت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تطورت المجتمعات البشرية بشكل غير مسبوق. ومع هذا التطور، ظهرت ثقافات وأنماط اجتماعية جديدة تعكس التغيرات السريعة في طريقة تفكير الأفراد وتفاعلهم مع محيطهم. من بين هذه الأنماط، تبرز «ثقافة التذاكي» كظاهرة لافتة للنظر ومثيرة للجدل، خاصة في ظل الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي والاعتماد المتزايد على المعرفة الفورية.
هذه الظاهرة لم تعد مجرد سلوك فردي عابر، بل أصبحت تعبيرًا عن أزمة معرفية وثقافية أعمق تستدعي التأمل والتحليل. فثقافة التذاكي تعكس محاولة الفرد إظهار نفسه بمظهر يتجاوز قدراته المعرفية الحقيقية، سواء بتقديم آراء سطحية تبدو عميقة، أو الادعاء بمعرفة غير موجودة، أو تضليل الآخرين لتحقيق مكاسب شخصية.
هذه الظاهرة ليست جديدة تمامًا، إذ لطالما لجأ البشر إلى التظاهر بالمعرفة كبوابة لاكتساب التقدير الاجتماعي، إلا أن ما يميزها اليوم هو انتشارها السريع وظهورها بشكل أكثر وضوحًا في الفضاءات الرقمية. يعود هذا الانتشار إلى عدة عوامل رئيسية، منها التأثير العميق لوسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت منصة مفتوحة للجميع للتعبير عن آرائهم ومشاركة معلوماتهم، بغض النظر عن دقتها أو صحتها. لقد وفرت هذه المنصات بيئة خصبة للأفراد الباحثين عن الشهرة أو التقدير، مما أدى إلى ظهور موجات من «المتذاكين» الذين يتحدثون بثقة عن مواضيع قد لا يفقهون فيها شيئًا.
أدت التنافسية المتزايدة في المجتمعات الحديثة أيضًا دورًا محوريًا في تعزيز هذه الظاهرة السلبية في بيئات العمل أو التعليم، حيث يُتوقع من الأفراد أن يثبتوا تفوقهم باستمرار، قد يجد البعض أنفسهم مجبرين على اللجوء إلى التظاهر بالمعرفة كوسيلة للتفوق الظاهري. هذا السلوك يعكس أزمة ثقة عميقة بالنفس، إذ يفضل الأفراد الادعاء بالمعرفة على مواجهة واقع جهلهم والسعي للتعلم الحقيقي.
إضافة إلى ذلك، يساهم غياب الوعي النقدي لدى كثير من الأفراد في تعزيز ثقافة التذاكي، حيث يصبح التمييز بين المعلومات الموثوقة والمغلوطة تحديًا كبيرًا في ظل الكم الهائل من البيانات المتاحة. في كثير من الأحيان، يتم تداول معلومات غير دقيقة بثقة تامة، مما يؤدي إلى تضليل الآخرين وتعزيز دائرة الجهل. كما تساهم المجتمعات التي تشجع على المظاهر الشكلية وتحتقر الاعتراف بالجهل في تفاقم هذه الظاهرة. في مثل هذه البيئات، يصبح الاعتراف بعدم المعرفة نقطة ضعف يُخشى الإفصاح عنها، مما يدفع الأفراد إلى التذاكي كوسيلة للحفاظ على صورتهم الاجتماعية.
المشكلة هنا ليست فقط في السلوك الفردي، بل في القيم المجتمعية التي تعزز السطحية على حساب العمق الفكري والمعرفي يؤدي هذا الواقع إلى تأثيرات سلبية متعددة على الأفراد والمجتمع ككل.
من أبرز هذه التأثيرات انتشار المعلومات الخاطئة، التي قد يكون لها نتائج كارثية، خاصة إذا كانت تتعلق بقضايا حساسة مثل الصحة أو الاقتصاد. المعلومات المضللة لا تؤدي فقط إلى سوء الفهم، بل تسهم أيضًا في تقويض الثقة بين الأفراد، حيث يفقد المتذاكون مصداقيتهم مع اكتشاف افتقارهم للمعرفة الحقيقية.
وعلى المستوى الثقافي، تعيق ثقافة التذاكي التقدم الفكري والمعرفي، حيث يعتمد الأفراد على المظاهر الزائفة بدلًا من السعي للتعلم والتطوير الحقيقي. هذا يعوق الابتكار ويؤثر على التنمية الشاملة للمجتمع، إذ يتطلب التقدم بناءً على أسس معرفية صلبة واستعدادًا مستمرًا للتعلم، كما أن انتشار السطحية كقيمة مجتمعية يؤدي إلى تآكل القيم الأصيلة، حيث يُفضل الاستعراض على الأصالة، ويُحتفى بالمظاهر على حساب الجوهر.
ولمعالجة هذه الظاهرة والحد من آثارها السلبية، يجب اتخاذ خطوات جادة على مستوى الأفراد والمؤسسات والمجتمع ككل. البداية تكون بتعزيز قيمة التعلم المستمر والبحث عن المعرفة من مصادر موثوقة.
تلعب المؤسسات التعليمية والإعلامية دورًا حيويًا في هذا السياق، من خلال تقديم برامج تعليمية تعزز التفكير النقدي والقدرة على التمييز بين المعلومات الصحيحة والخاطئة. كذلك، يجب تشجيع الأفراد على الصدق والشفافية، خاصة فيما يتعلق بمعرفتهم.
ينبغي أن يُنظر إلى الاعتراف بعدم المعرفة كخطوة أولى نحو التعلم، وليس كعيب أو نقطة ضعف، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعد أحد المحركات الرئيسية لثقافة التذاكي، يجب أن تتحمل جزءًا من المسؤولية في مواجهة هذه الظاهرة. يمكن تحقيق ذلك من خلال وضع سياسات صارمة لمكافحة المعلومات المضللة، وتقديم أدوات تتيح للمستخدمين التحقق من صحة المحتوى قبل مشاركته، كما يمكن أن يحد تنظيم استخدام هذه المنصات بشكل يعزز المسؤولية الاجتماعية من انتشار السلوكيات السطحية، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمجتمعات أن تستفيد من برامج توعية تهدف إلى تسليط الضوء على أخطار التذاكي وتأثيراته السلبية، مع تعزيز الحوار المفتوح والاحترام المتبادل، هذه البرامج يمكن أن تشجع الأفراد على التركيز على تطوير أنفسهم بدلًا من محاولة إظهار ما لا يمتلكونه.
وفي النهاية، يمكن القول إن ثقافة التذاكي تعكس أزمة معرفية عميقة في المجتمعات الحديثة، حيث أصبحت المظاهر الزائفة تحل محل المعرفة الحقيقية.
هذه الظاهرة ليست مجرد سلوك فردي، بل هي نتيجة تفاعل معقّد بين العوامل الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، ولمواجهتها، يجب أن نتبنى رؤية متكاملة تعزز قيم التعلم والصدق والتفكير النقدي، مع توفير بيئة تشجع الأفراد على الاعتراف بمحدودية معرفتهم والسعي لتطوير أنفسهم. المعرفة الحقيقية ليست مجرد أداة للتفوق الاجتماعي، بل هي أساس بناء مجتمعات أكثر وعيًا وقدرة على مواجهة تحديات العصر.
التظاهر بالمعرفة قد يمنح شعورًا مؤقتًا بالتفوق، لكنه في الواقع يعيق التطور ويقود إلى نتائج عكسية؛ لذلك يجب أن نعمل جميعًا على تعزيز ثقافة تقوم على الأصالة والمعرفة الحقيقية، حيث يكون الاعتراف بعدم المعرفة بدايةً لطريق التعلم والاكتشاف.