أ.د.عثمان بن صالح العامر
الديمقراطية -كما هو معلوم- نظام حكم يُعطي السلطة للشعب، بحيث يكون هو المصدر الأساسي للسلطة من خلال انتخاب ممثلين عنه، أو عبر التصويت المباشر على القوانين والسياسات التي تتخذها الرئاسة. ولذا عرَّفها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السادس عشر (أبراهام لينكولن) بأنها «حكم الشعب، من قِبل الشعب، ومن أجل الشعب»، والكلمة نفسها مشتقة من اليونانية: «ديموس» (شعب) و”كراتوس” (حكم)، أي «حكم الشعب».
تعد الديمقراطية في أثينا القديمة من أوائل النماذج في التاريخ التي جُرِّبت فيها فكرة «حكم الشعب» بل هي حسب معرفتي هي الأولى على الإطلاق، ولا تختلف - في قواعدها العامة - كثيراً عن ديمقراطية اليوم، إلا أنها لم تكن تعتمد على ممثلين مثل الديمقراطيات الحديثة بل كانت مباشرة، ولا ينتخب إلا الرجال الأحرار من مواطني أثينا فوق سن الثامنة عشرة، وهناك مؤسسات للديمقراطية «الجمعية العامة، مجلس الخمسمائة، والمحاكم الشعبية»، والقرعة عندهم بديلاً عن الانتخاب في أغلب المناصب العامة خاصة القضاء؛ اعتقاداً منهم أن ذلك يتوخى منه العدل ويمنع الفساد والتحيز، والأجمل في أثينا أن بإمكان المواطنين التصويت لنفي مَن يُعتقد أنه يشكل تهديداً للديمقراطية لمدة عشر سنوات. وهذا يعني أن النظام الديمقراطي ليس جديداً في أدبيات السياسة العالمية، إذ كان موجوداً في الحضارة اليونانية والرومانية واختفى حين ساد الظلام أوروبا. وعندما نجحت الثورة الفرنسية التي كان شعارها (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس) بعثت الديمقراطية من مرقدها، وبُشر بها بديلاً عن الطغيانين (الكنسي) و(الملكي) اللذين ساما الشعوب الأوروبية أشد ألوان العذاب. ورغم أن أثينا كانت مهداً للديمقراطية، إلا أنها لم تكن محل ترحيب واعتزاز لدى الجميع، بل إن فلاسفتها كانوا ينتقدونها ويصمونها بأبشع العبارات وأشد الألفاظ، فمنح السلطة للجميع قد يؤدي - في نظرهم - إلى قرارات غير عقلانية وخطيرة، وعلى سبيل المثال هو الفيلسوف المعروف «سقراط» يشخِّص الديمقراطية بكل دقة وبيان، حيث دار حوار بينه وبين أحد تلاميذه حول خوض غمار العمل الانتخابي في النظام الديمقراطي الأثني فحواه أن التلميذ كان متردداً بشأن قدرته على اقتحام مجال الانتخابات، لشعوره بالرهبة من مخاطبة الجمهور، وخوض المناقشات العامة أمام الملأ. هنا يعاتبه «سقراط» مفصحاً عن احتقاره الشديد للجمعية الشعبية «الإكليزيا» قائلاً: (إنك لا ترهب مخاطبة أكثر الناس ذكاء ومقدرة، وها أنت تخجل من مخاطبة جمهور من التافهين والبلهاء، ممن تخجل؟ من حلاجين وإسكافيين ونجارين وحدادين وفلاحين وتجار وأصحاب حوانيت في الأسواق، أناس كل همهم أن يشتروا بسعر أقل ليبيعوا بسعر أعلى.. هؤلاء هم أعضاء الجمعية الشعبية «الإكليزيا»).
كما هاجم الديمقراطية الانتخابية الفيلسوف اليوناني «أفلاطون» - وهو أبرز تلاميذ سقراط - وتشاءم من نتائج تطبيقها، (لأنها إن جعلت الناس جميعاً سواسية في الحقوق والقوى، فلن يستطيع الدهماء - بحكم تربيتهم - أن يحسنوا الاختيار، وقد يوضع الأمر في أيدٍ طائشة جاهلة تسير بسفينة الدولة في بحر متلاطم الموج، ولا تزال الأنواء تتنازعها حتى ينتهي «الحكم الديمقراطي» إلى «ثيوقراطية» مستبدة)، وحذر منها «أرسطو» كذلك فهي في نظره (حكم طالح شديد الخطر، حكم العامة والرعاع، يقوم مهرِّجٌ خداعٌ يفسد عقيدة الأمة ويغرر بها فتنتخبه عن رضا وطواعية، وهو في الواقع طاغية لا يصلح لشيء، والذين ينتخبون هذا الطاغية -في العادة - هم العامة أكثر الجماعة عدداً، ومعهم قلة من ذوي المصالح الشخصية، والأطماع الخاصة). وما أشبه الليلة بالبارحة، وإلى لقاء والسلام.