الهادي التليلي
يعد المشهد السياسي الراهن مشهداً فريداً من نوعه سواء في تاريخ الحكم الجمهوري أو الديمقراطي على حد السواء، على الرغم من كون استراتيجية الحزب الجمهوري تقوم على المعارك والحروب الاقتصادية وبالتالي المستهدف الأول للمنافسة بالنسبة إليهم هو التنين الصيني، في حين استراتيجية الحزب الديمقراطي تقوم على المعارك العسكرية ومن ثمة فالمستهدف بالصراع بالنسبة إليهم هو الدب الروسي، ولكليهما وجهة النظر الخاصة به في فرض الهيمنة الأمريكية على العالم. في نهاية حقبة ترامب الأخيرة كان الصراع على أشده مع الصين اقتصادياً وكانت حرباً لم تنهها في اللحظات الأخيرة سوى المعركة الانتخابية قبل الأخيرة التي فاز بها جو بايدن على حساب ترامب وتأجلت الحرب، في حين تحولت المواجهة للديمقراطيين مع بوتين حيث اعتبره بايدن هدفه الأول واصفاً إياه بالقاتل، وانطلق في مواجهة مفتوحة مرة بشكل مباشر من خلال التصريحات والإجراءات العقابية لروسيا ومرة من خلال حروب بالوكالة آخرها الحرب الأوكرانية - الروسية التي كان فيها الحلف الأطلسي هو اللاعب الخفي في هذه الحرب التي كانت لها أبعاد اقتصادية وعسكرية وتم اعتبارها حرب القمح والطاقة بامتياز. في الحقيقة عندما أخذ الديمقراطيون السلطة حاولوا استمالة الصين للاستفراد بالدب الروسي، لكن الصين تعد القارئ الجيد للكوبوي الأمريكي فلم تتورط بل كانت أقرب إلى روسيا بحكم التقارب الإيديولوجي والاشتراك في ما يسمى المعسكر الشرقي، فالديمقراطيون لا يدخلون حربين في نفس الوقت عسكرياً، كذلك الجمهوريون لا يدمجون بين الحرب الاقتصادية والعسكرية وإن كان لهم تاريخ طويل في صناعة الحروب والاستفادة منها، فمفهوم الحرب عند الجمهوريين هو استثمار بامتياز فحتى جورج بوش الأب والابن اللذين نسبت إليهما حروب الخليج كانت في أساسها استثماراً ضخماً وكسراً لشوكة منافس قادم اسمه العراق، بل إن جورج بوش الأب والابن يفاخران كونهما رجلي أعمال أكثر من كونهما رجلي سياسة.
بعد عودة رجل الأعمال والسياسي دونالد ترامب للحكم على أعقاب حقبة جو بايدن كان هدفه الأول استئناف المعركة الاقتصادية مع الصين، ولكن بقيت أمامه بعض مخلفات حكم بايدن، ونعني هنا حرب غزة، فما كان منه إلا استثمار هذه الحرب بما يضمن للولايات المتحدة أكثر المصالح الاقتصادية والتفرغ للحرب مع الصين اقتصادياً، مع طي صفحة الحرب الأوكرانية بعد تحقيق مكاسب تاريخية، فالحرب مع الصين كانت في سياق حزمة إجراءات ضرائبية يعلم ساسة البيت الأبيض أنها ستنفض الرماد عن الحرب الاقتصادية التي كان ترامب قد أعلنها خلال ولايته الفارطة، وكأن حقبة حكم الديمقراطيين مجرد علامتي تنصيص أو ما بين قوسين لا أكثر ولا أقل ولكن هذه المرة مع لاعب خطير في المعادلة، ونعني حضور إيلون ماسك تحت مسمى إدارة كفاءة وكالة التنمية الدولية وفي الحقيقة دور ايلون ماسك أكبر بكثير.
في واقع الأمر إدارة ترامب في المدة الرئاسية الماضية تختلف عن الراهنة بكون إيلون ماسك قتل كل المساحات الإنسانية التي تعرف بما يسمى القيم الجمهورية، وحولت الراهن الاقتصادي الحالي لحظة استثمار جشع يصل إلى حد الابتزاز الفج أو قل الاستقواء لسلب المال شأنهم في ذلك شأن الكوبوي قديماً. الحرب الاقتصادية الراهنة جعلت الجميع يعودون بذاكرتهم القرائية لأسباب الأزمة الاقتصادية العالمية 1929 التي أدى فيها التضخم إلى إفلاس دول وأزمة خانقة كانت من الأسباب العميقة لقيام الحرب العالمية الثانية، كما جعلت الكثيرين يستحضرون الأسباب العميقة لاغتيال الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة والثامن الذي مات وهو في منصبه جون كينيدي سنة 1963، ولعل ما ذهب بالبعض إلى هذا الاعتقاد هو الآثار الاقتصادية الوخيمة للحرب الأوكرانية - الروسية على الاقتصاد الأوروبي خاصة والعالم عموماً، هذا العالم الذي لم يستفق بعد من صدمة كورونا وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والصحية، فالمعطى الابستيمولوجي يمهد لقيام أزمة اقتصادية عالمية وحرب الضرائب التي أشعلت فتيلها الولايات المتحدة واستهدفت بها خاصة دولة الصين التنين الاقتصادي العملاق تعد حرباً لا منتصر فيها وكل من دخلها خاسر لا محالة.
كما أن قراءة البعض للعقل الأمريكي الذي قد لا يتأثر كثيراً بالسياسة وقد لا يبدي اهتماماً كبيراً للرياضة أو الترفيه، ولكن عندما يتعلق الأمر بالدولار والبورصة والمصالح الاقتصادية والإحساس بأن استثمار الدولة سيكون على حساب مصالحه وهو ما لا يدركه أمثال ماسك أو بيل غيتس أو مارك زوكربرغ أو لاري اليسون أو تشارلز شواب المقربون من القرار الجمهوري، فإن الأمر يختلف تماماً. ولعل المسيرات والمظاهرات العملاقة التي تجوب شوارع الولايات المتحدة يومياً جعلت الكثيرين يذهبون إلى أن المواطن الأمريكي العادي والطبقة المتوسطة التي لن تستطيع تحمل أعباء الحرب الاقتصادية ومافيات المال المرتبطة مباشرة بعدة دول خارجية منافسة ستستحضر روح جون كينيدي في شوارع الولايات المتحدة.