مرفت بخاري
قد نتشابه في الأسماء، الملامح، وحتى بعض الطباع، لكن ما يميزنا حقًا عن غيرنا هو أخلاقنا وصفاتنا. فالقيمة الحقيقية للإنسان لا تُقاس بلقب يحمله أو بثروة يمتلكها، بل بما يتركه من أثر في نفوس الآخرين. ما تملكه سيظل ملكك، لكنه زائل، أما ما تقدمه للناس من أخلاق وتواصل فهو ما يبقى، وهو الرابط الحقيقي بينك وبين المجتمع.
وكما أن الأخلاق ترفع الإنسان وتعزِّز مكانته، فإن بعض الصفات قد تشوّه صورته وتطفئ بريقه في أعين الآخرين. هناك طباع تجعل الشخص محبوبًا أينما حلّ، وطباع أخرى تنفّر الناس منه حتى لو كان يملك كل مقومات النجاح المادي. ومن بين هذه الصفات، يأتي البخل كواحدة من أكثر الطباع التي تترك أثرًا سلبيًا في العلاقات. فهو لا يقتصر على المال وحده، بل يمتد إلى المشاعر والعطاء بكل أشكاله. فمتى يكون البخل مجرد حرص؟ ومتى يتحول إلى صفة مذمومة تُبعد الإنسان عن أقرب الناس إليه؟
قد يخلط البعض بين البخل والحرص، لكن الفرق بينهما يكمن في التوازن. فالحرص صفة إيجابية تعكس حسن التدبير، حيث ينفق الإنسان بحكمة ويوازن بين احتياجاته وادخاره للمستقبل. أما البخل فهو حرمان غير مبرر، ليس فقط في المال، بل حتى في العواطف والمشاعر، مما يجعله صفة منفّرة تؤثر على العلاقات الاجتماعية.
يكون الحرص محمودًا عندما يساعد الإنسان على تحقيق أهدافه دون تقييد حياته أو حياة من حوله، لكنه يصبح بخلاً حين يتحول إلى هاجس يمنع صاحبه من العيش براحة أو مشاركة الآخرين في لحظات الفرح والعطاء. فالمال وسيلة، وليس غاية، والإنسان الحكيم هو من يتحكم في ماله، لا من يجعله يتحكم فيه.
ولعل أقسى أنواع البخل، وأشدها ألمًا، هو بخل المشاعر. إنه الموت البطيء الذي لا يُسمع له صخب، لكن آثاره تدمّر الأرواح والقلوب من الداخل. هذا النوع من البخل ليس مجرد غياب للكلمات الجميلة أو إخفاء للتقدير، بل هو تجريد الإنسان من إنسانيته، وتدمير للعلاقات بأبشع الطرق. بخلاء المشاعر هم أولئك الذين يعيثون في بيوتهم فسادًا، يُحيون مع من يحبون لكنهم يُميتُون كل شعور دافئ في قلوبهم، تاركين وراءهم جفاءً قاتلاً وصمتًا مؤلمًا.
بخل المشاعر لا يقتصر على الامتناع عن قول كلمة «أحبك» أو «شكرًا»، بل هو أيضًا في غياب الاهتمام أو الدعم العاطفي في اللحظات التي يكون فيها الطرف الآخر في أمس الحاجة إليه. العلاقات التي تقوم على الصمت والجفاء لا تستحق أن تُسمى علاقات، وأي شخص يبخل بعواطفه في النهاية سيكون أضعف وأفقر من أولئك الذين يملكون المال والمكانة ويشتركون في العطاء.
ويظل بخل المشاعر هو القسوة بعينها، هو الموت البطيء الذي لا يُرى، ولكنه يُشعر به في كل لحظة. فحين يغلق الإنسان قلبه عن العطاء، وحين يتوقف عن منح من حوله كلمات الحب والدعم، فإنه يقتل نفسه وأهله شيئًا فشيئًا. لا شيء أقسى من أن تعيش في عالم مليء بالناس ولا تجد من يُعبر عن مشاعره تجاهك، ولا شيء أكثر تهديدًا للإنسانية من أن يُسلب منك حق الحياة مع من هم يسلبون منك الحياة.
إذا كنت تملك القدرة على العطاء، فاعلم أن الكلمات الطيبة والاهتمام البسيط يمكن أن تخلق جسرًا من المحبة يربطك بالآخرين للأبد. فما تقدمه من مشاعر هو ما يبقى، ولا شيء أروع من أن تكون في قلوب الآخرين ذكرى جميلة، لا مجرد شبح يمر في حياتهم.
كونوا بخير.