د. تنيضب الفايدي
نشأت طرق كثيرة من كلّ جهة سميت فيما بعد بـ«طرق الحج»، كما أقيمت على هذه الطرق عدة محطات، وقد تبنتها وعزّزتها وحمتها الخلافة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، وفي عصر الدولتين الأموية والعباسية، ولم تكن هذه الطرق مجرد مسارات لعبور الناس، والدواب، والبضائع، بل كانت شرايين حياة، بها تواصل الناس، وانتقلت الأفكار، والطباع، والعادات، والتقاليد من مجتمعٍ إلى آخر، ومن تلك الطرق: الطريق الكوفي الذي اشتهر في المصادر الإسلامية باسم (درب زبيدة) نسبةً إلى أم جعفر بنت جعفر بن المنصور أبي جعفر العباسية، والدة الأمين محمد بن هارون الرشيد، وسبب تسمية هذا الطريق بدرب زبيدة؛ لأن لها أعمالا كثيرة في إقامة بعض المنشآت على هذا الطريق، حيث يُنسب لها ما يقارب 11 محطة ومنزلاً على الطريق، فقد بذلت هذه السيدة جهوداً جبارة لأجل راحة الحجاج، حيث حفرت الآبار على جميع المحطات وأنشئت البرك وبنت الاستراحات والحصون والقصور على هذه المحطات، وقد سمي البعض منها باسمها اعترافاً بجميل إحسانها مثل: بركة زبيدية، أو بركة لأم جعفر، وقصر لأم جعفر، وبركة زبيدية مدورة، وقد شيّد تلك الجهود جميع المؤرخين حيث يقول الرحالة ابن جبير متأثراً عند رؤية درب زبيدة: «وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة هي آثار زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد وابنة عمه، انتدبت لذلك مدة حياتها فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كلّ سنة من لدن وفاتها إلى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذا الطريق والله كفيل بمجازاتها والرضا عنها..».
ومن المحطات الشهيرة التي وقعت في درب زبيدة السليلة، فالسليلة محطة في درب زبيدة بعد الربذة، لا تزال السليلة معروفة بهذا الاسم، وقد جاء ذكر هذه المحطة في كتب الجغرافيين، يقول ابن رستة: «ومن الربذة إلى السليلة 26 ميلاً فيه أعراب وربما ضاق على المارة الماء من البرك والآبار، والمتعشى بالكُنابين على 13 ميلاً».
وذكر الحربي: «ومن الربذة إلى السليلة ثلاثة وعشرون ميلاً ونصف، وبها قصر ومسجد لأبي ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال: إن قبره فيه».
وقبل السليلة بميل (طريق) يسلكه من لا يريد ينزل السليلة، وهو أقصر بشيء يسير، يخرج إلى الشجير عند البريد خارج السليلة بميل.
ويقول الحربي: «ومن السليلة إلى العمق ثمانية عشر ميلاً، وبالسليلة قصر ومسجد، وهي للزبير بن العوام، وبها بركة مربعة، ولها مصفاة، وللمصفاة مسيل، وبها من الآبار الغليظة الماء المعمولة بالحجارة المنقوشة ست آبار».
وعلى أحد عشر ميلاً بركة تسمى ضبة والضبة وادي يسرة عن الطريق مربعة، وإلى جانبها بئر فيها ماء كثير، وبناء خرب، وهو المتعشا.
ويقول أيضاً: «والجبل الذي عند المتعشا يسمى الروثة، ومن وراء ذلك بقليل متعشا يعرف بحجر كناس، وفيه بركة».
ويقول: «وقبل السليلة بستة أميال بئران تعرفان بالحفائر، عادلتان عن الطريق يمنة ماؤهما مالح، وعلى ثلاثة أميال من السليلة بركة تعرف بابن حجر وقصر خرب يمنة، مدورة وهي في واد يقال له ذو نقر».
وقد جاء ذكر السليلة في شعر أحمد بن عمرو في تنزيله أم جعفر عند بيان منازل طريق مكة والمدينة:
ثم ترحلنا إلى السليلة
مرحلة مياهها قليله
تعجز عن رفقتها النزيله
فأنجدت ذاتُ اليد الجميله
يبذل أموال لها جزيله
فاستخرج الماء بكل حيله
فضلاً على الحجاج والقبيله
لقد حبا ذو القدرة الجليله
بنتَ أبي الفضل بدا الفضيله
لها سماء أبداً مخيله
كما جاء في أرجوزة أيضاً:
واحتمل الناسُ إلى (السليله)
على المطايا النحفِ الضئيلة
وهي على سبع من المنازل
للراجع الفاسد، غير العادل
فنزلوها، وهي تدعى المُنقذه
واحتملوا عنها فجازوا (الرّبذة)
وأنشد أبو جعفر أحمد بن محمد الضحاك بن عمرو الحماني الكوفي:
بـ(الثعلبية) النجوم الأسعُد
ومن (زرود) فوّز المزرّد
يمضي (إلى) (الأجفر) لا يعدد
وراحت العيس بـ(فيد) تنهد
ويوجد بالقرب من السليلة بركة، حيث تقع هذه البركة إلى الجنوب من موقع السليلة بحوالي 15 كيلاً، وقد بنيت في سهل منبسط يخترقه وادي الشعيلة المنسوب إلى جبل يقع شمال غرب البركة. والبركة ذات شكل مستطيل ومساحتها التقريبية 33.30 ×18.5 متراً، وهي مندفنة تماماً، ويمكن مشاهدة أطراف جدرانها المدعمة بأكتاف نصف دائرية من الخارج، وزودت البركة بمصب لدخول مياه الأمطار والسيول لمسافة تصل إلى أكثر من 100 متر. ويبدو أن هذا السد يتفرع إلى فرعين داخل الوادي. أما مادة بناء البركة فهي من حجر البازلت والحجر الناري ومدعمة بالجص، ويلاحظ وجود آثار لمبانٍ قديمة إلى الشمال من البركة ويشاهد في المنطقة السكنية تلان أثريان واضحان تظهر فيهما بقايا أساسات المباني القديمة.
يقول أحد المؤرخين: «وفي المسح الأثري لدرب زبيدة ورد ذكر (بركة مهزول)، والتي تعتقد أنها هي البريكة أو بركة العمق ولا نستبعد أن تكون هذه البركة هي موقع المتعشى الذي وصفه الحربي كالتالي: «وعلى أحد عشر ميلاً بركة تسمى ضبة والضبة وادي يسرة عن الطريق مربعة، وإلى جانبها بئر فيها ماء كثير وبناء خرب وهو المتعشا».
أما ابن رستة فقد وضع المتعشى بعد السليلة بمسافة 12 ميلاً وهو باسم: السّنجة».
وهناك مواقع أخرى تحمل اسم (السليلة) في أرجاء الوطن الحبيب.
بعض المراجع:
المناسك للحربي، الأعلاق النفيسة لابن رستة، مهد الذهب للدكتور تنيضب الفايدي، درب زبيدة للدكتور الراشد، الأدب يخلد معالم الوطن للدكتور تنيضب الفايدي.