د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
هدف ترمب إعادة تصحيح ميزان التجارة العالمية مع الولايات المتحدة، والهدف الأسمى من رفع الرسوم التجارية هي الصين، وفي نفس الوقت استفادت الولايات المتحدة فرض هيمنتها العالمية خصوصا بعد توافد 75 دولة على الولايات المتحدة إلى واشنطن للتفاوض، بينما الاتحاد الأوروبي يتريث ولم يخطو مثلما خطت الصين في مواجهة الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب عليها وعلى العالم، بسبب أن الاتحاد الأوروبي بين المطرقة الروسية والكماشة الأمريكية، حتى الصين توقفت عند فرض 125 مقابل 145 فرضها ترمب على الواردات الصينية بعدما هدد ترمب بمضاعفتها إن واصلت الصين.
استفادت الصين من منظمة التجارة العالمية حيث تنقسم الدول الساعية للانضمام إلى المنظمة إلى ثلاثة مستويات تنموية، الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي واليابان، تلتزم بكافة أحكام وقوانين الاتفاقيات، ودول ذات مستوى نام، مثل الصين وتركيا والسعودية وبقية الدول العربية ومعظم الدول الإسلامية التي حصلت على استثناءات من أحكام وقواعد الاتفاقيات، ودول ذات مستوى أقل نموا مثل معظم الدول الأفريقية التي سمح لها بالحصول على استثناءات من أحكام وقواعد الاتفاقيات.
لجوء بعض الدول إلى ممارسات تتجاوز أحكام وقواعد الاتفاقيات في منظمة التجارة العالمية، شوهت التجارة العالمية، فيما يتعلق بجذب الاستثمارات وتنمية الصادرات وخفض الواردات، منها لجوء رابطة دول جنوب آسيا ومجموعة بريكس إلى زيادة نسبة المتوسط المرجح لرسومها الجمركية إلى أربعة أضعاف مثيلاتها في الولايات المتحدة، بجانب حجب دول الاتحاد الأوروبي مبدأ المعاملة الوطنية أثار غضب أمريكا، وكذلك مع كندا والمكسيك، لكن ترمب كان الرئيس الأكثر جرأة في مواجهة تشوه التجارة، بجانب التلاعب بالعملات الوطنية من خلال خفضها لدعم صادراتها ورفع قيمتها لدى الاستيراد، جعل الصين تتربع العالم في 2024 بصادرات 3.7 تريليون دولار.
مما أدى إلى تفاقم العجز التجاري مع الولايات المتحدة إلى 1.1 تريليون دولار، ولم تنجح منظمة التجارة العالمية في معالجة القضايا عبر ثلاثة عقود التي وصل عددها إلى نحو 700 قضية، ما أثار حفيظة الولايات المتحدة، ووجد ترمب أن عليه أن يقوم بدور منظمة التجارة العالمية لمعالجة هذه التشوهات التجارية، وليس انقلابا على العولمة كما يظن البعض، بالطبع سيكون لها تداعيات على العالم، وعلى أمريكا من حيث ارتفاع نسب التضخم، وتباطؤ أكبر في النمو الاقتصادي، وزيادة الضغوط على أسواق المال العالمية، مع انخفاض أسعار الطاقة نتيجة تباطؤ الإنتاج في القطاع الصناعي الذي يؤدي بدوره إلى انخفاض الطلب على الطاقة.
البعض يرى أن العولمة باتت تجري بسرعة غير مسبوقة والتي لم يعد ممكنا استيعابها عالميا، وأن الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب جعلت الولايات المتحدة تتجه نحو الانعزال والعزلة والتقوقع داخل شرنقة الدولة القومية الذي يصاحبه توجس من الآخر، وسماها البعض التحول من العولمة إلى الحروب الجمركية، خصوصا عندما سمى ترمب في يوم فرض هذه الرسوم الجمركية بيوم التحرير لأمريكا، يظنون أنه قضى على العولمة وعلى تحرير التجارة، لكن من المبكر الحديث عن نهاية العولمة، بل ستظل العولمة أساسية في تحريك حيوية الاقتصاد العالمي، لكن ما يحدث يدور في خانة تصحيح التشوهات التي أصاب العولمة من قبل العديد من الدول من أجل التوصل إلى التجارة العادلة.
بالطبع فرضت أمريكا على أوروبا قيودا على تصدير بعض منتجات التكنولوجيا الفائقة إلى الصين مثل أشباه الموصلات بالإضافة إلى الرسوم الجمركية على السيارات الكهربائية الصينية مثل هواوي وزد تي إي في الوصول إلى شبكة الجيل الخامس في أوروبا، واعتبر سفير الصين لدى اسبانيا باو جينغ أن الصين تريد التعامل مع الاتحاد الأوروبي باعتباره شريكا وليس منافسا في ظل تحول جيوسياسي، وسياسة واشنطن التجارية الجديدة التي وصفها بأنها إساءة معاملة اقتصادية آحادية الجانب، وانتقد استراتيجية الاتحاد الأوروبي لعام 2019 التي وصفت الصين بأنها شريك للتعاون ومنافس اقتصادي وغريم ليست منطقية لأن الطرفين يؤيدان الأسواق المفتوحة والتجارة القائمة على القواعد.
لا شك أن هناك صراعا على القمة بين الولايات المتحدة والصين بجانب تصحيح التشوهات في التجارة العالمية، خصوصا وأن الصين لم تكن ضمن الاقتصادات الخمس الأولى حتى عام 2000، لكنها أصبحت ثاني اقتصاد عالمي في 2022 لكن ترى الولايات المتحدة أنها استفادت من تشوهات التجارة المتعددة الأطراف والصعود على حساب الصين، ولن تسمح الولايات المتحدة للصين بإزاحتها من على القمة كما خططت له الصين في 2035 بدلا عن 2050.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقا