أ.د.عثمان بن صالح العامر
للتو انتهيت من قراءة كتاب (روح الاعتدال) لمؤلفه (شارل فاجنر) الفيلسوف الفرنسي المعروف، ودون الدخول في مضامين الكتاب، وتحليل رؤية مؤلفه حيال (الاعتدال) الذي نحن اليوم أشد حاجة إليه عمّا كان عليه الحال زمن صدور الطبعة الأولى منه سنة 1895م، أقول بعيداً عن الخوض في فحوى ما بين دفتي هذا السفر الماتع المفيد لفت انتباهي ما ذكره المؤلف في مقدمة الطبعة التاسعة لروح الاعتدال ما ترجمته: (كتب إلي «أرمان كولن» صاحب المطابع الشهيرة باسمه - عقب حفلة زواج حضرها - كتاباً رقيقاً مؤثِّراً يطلب إليَّ فيه أن أكتب شيئًا في المعيشة البسيطة، فألفتُ هذا الكتاب. وظهر فكان له شأن يذكر بين القراء، وانتشر في كل أنحاء القارة الأوروبية انتشاراً سريعًا. ثم نقل إلى عدة لغات حيَّة، فنقلته الآنسة «ماري لويز هندي» إلى اللغة الإنجليزية لحساب شركة المطبوعات الأمريكية «كلور» بنيويورك، وكتبت عنه الآنسة الكاتبة «جراس كنج» فصولاً ضافية، كان لها أحسن وقع في تلك البلاد. واطلع عليه الرئيس «روزفلت» فلم يتمالك عن الكتابة إلي يقول: (إنني أنصح لقومي دائماً بمطالعة سفرك الجليل)، وفي الحقيقة، إنه لم يترك فرصة تمر دون أن ينوّه فيها بذكر هذا الكتاب الاجتماعي، حتى لقد خطب خصيصاً في هذا الشأن مرة «ببانجور» وأخرى «بفلادلفيا»، وزاد على ذلك أن دعاني لزيارة الولايات المتحدة، وخطب في يوم 22 نوفمبر سنة 1904 «بواشنطن، وكنت حاضراً فقدمني إلى الجمهور. ولا أزال أشكر له قوله: (هذه هي المرة الأولى والأخيرة في زمن رئاستي أنتهزها لأعرف الجمهور الأمريكي بهذا الكاتب الاجتماعي القدير، وأعرض عليهم مؤلفه الجليل، فإنه إلى الآن لم يظهر بين كل المؤلفات الراقية ما أراه كفيلاً بإفادة مواطني الفائدة التي أنتظرها من مثل هذا الكتاب...).
ويضيف شارل قائلاً: (وقد لحظت بنفسي تأثير أقوال الرئيس المحترم في نفوس وعقول مواطنيه؛ لما رأيته في تهافتهم بعد ذلك على مطالعة كتابي هذا وانتشاره بينهم انتشاراً لم يكن لغيره من المؤلفات، حتى إن الصحافة أخذت تكتب عنه المرار المتعددة، وبعضها تنقله وتنشره تباعًا. كل هذا يدل على أن الكتاب أظهر حقيقة أن الناس بحاجة إليه، فقد صاروا يسأمون الحياة المرتبكة، ويشعرون بحاجتهم إلى الاعتدال، وتلطيف حالات هذا الارتباك المخل بنظام العالم المقوِّض لأركان السعادة. وإنني لأرجو أن يأتي هذا الكتاب بالغرض الشريف الذي كتب خصيصاً من أجله، يلفت الناس إلى معنى الحياة الحقيقية ومقتضياتها، والعمل لتحقيقها والابتعاد عن ما عداها، فإن السعادة والقوة وجمال الحياة لا تكون إلا بالبساطة والاعتدال).
هذا ما كان في دول الغرب قبل 130سنة، فكيف حالهم اليوم، بل كيف هم فيما سيكون بعد هذا الضجيج الذي يعيشه العالم المعاصر، وأين الاعتدال وروحه في زمن طغيان المادة وصراع القوى، والحرب الاقتصادية التي أطلت برأسها وربما تبعتها حرب عالمية ثالثة لا سمح الله، وإلى لقاء، والسلام.