م. سطام بن عبدالله آل سعد
لا مفاعلات نووية سلمية بلا عقول مؤهلة، ولا عقول مؤهلة بلا رؤية تعليمية تسبق الجامعة وتُروى منذ الصفوف الأولى، فالعقول لا تُبنى دفعة واحدة في القاعات الجامعية، لا سيَما في زمنٍ يتسارع فيه التقدم التكنولوجي، وتشتد المنافسة على السيادة الصناعية، إذ لم يعد مقبولًا تأجيل التفكير في المستقبل إلى ما بعد المرحلة الثانوية. فمن يراهن على التغيير في نهاية السلم التعليمي يفوّت أهم مراحل البناء العقلي والمهاري. إنّ التحول الصناعي الذي تطمح إليه المملكة لا يبدأ بخط إنتاج، بل بفصلٍ دراسي، ولا يُقاس بعدد المصانع، إنّما بعدد العقول التي نُعيد تشكيلها منذ الصغر لتفكر وتبتكر وتنتج وتصنع المستقبل.
إن ربط النشء منذ الصغر بالمفاهيم الصناعية والتكنولوجية هو ضرورة استراتيجية تمسّ مستقبل الاقتصاد الوطني واستدامة سيادته الصناعية والاقتصادية. والخلل اليوم يكمن في أن معظم ميول الطلاب نحو المجالات التقنية والصناعية لا تتبلور إلا في مراحل متأخرة، وبعد أن تكون التخصصات قد فُرضت عليهم بلا تجربة واقعية، ولا إدراك فعلي لماهية تلك المسارات.
ما نحتاجه ليس مجرد مادة دراسية بعنوان «التقنية» أو «الصناعة»، بل تجربة متكاملة تنقل الطفل من متلقٍ جامد إلى ممارس فضولي، تدمج بين العمل اليدوي والتفكير التحليلي، وتحوّل الفصول الدراسية إلى ورشٍ تفاعلية تُوقظ في الطفل شغف الاكتشاف والبناء. حينها فقط، يصبح الحلم بمخترع سعودي، أو مهندس مفاعل نووي وطني، أمرًا قابلًا للتحقق لا شعارات معلّقة.
المفارقة أن الطفل السعودي اليوم ينشأ وسط بيئة رقمية وتكنولوجية غنية، لكنه لا يجد في نظامه التعليمي حاضنةً تنقله من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن الإعجاب إلى الابتكار. وهنا تضيع الفرص، ويتأخر تشكُّل العقل الصناعي الوطني.
إن إعادة هيكلة المناهج لتشمل محتوى صناعيًا حديثًا، بلغةٍ معاصرة وتجارب واقعية، هي نقطة الانطلاق. لكن الأهم هو تغيير الفلسفة التربوية ذاتها، من نظام يقوم على الحفظ والدرجات إلى نظام يراهن على المهارة والخيال العلمي والتفكير التطبيقي.
هذا التوجّه ليس رفاهية تعليمية، بل خيارٌ تنمويّ واقتصادي صناعي حاسم. فمن لا يزرع المصنع في المدرسة، سيضطر لاستيراد المنتج في المستقبل، ويستورد معه الاعتماد والتبعية. ومن لا يشجّع الطفل على أن يبني بيديه، سيكتفي غدًا بمشاهدة الآخرين وهم يصنعون ويُديرون اقتصاده.
إننا لا نتحدث هنا عن تعليم صناعي تقني فحسب، بل عن هوية وطنية جديدة تُبنى على الإنتاج، وتُعلي من قيمة العمل، وتُربّي جيلًا يدير المصانع لا يقف عند أبوابها. نحن أمام تحوّل اقتصادي صناعي يستوجب بناء منظومة تعليمية تنطلق من الصفوف الأولى، وتُغذَّى بالاستثمار، وتُصمَّم لتحقيق التوطين وتعزيز السيادة الصناعية. ومن أراد غدًا نوويًا سلمياً محليّ الصنع، فعليه أن يبدأ اليوم بغرس فكر مدرسي صناعي تكنولوجي؛ فالتغيير الحقيقي .. يبدأ من دفتر الطالب، ومختبر مدرسته.
** **
- مستشار التنمية المستدامة