د.نادية هناوي
كثيرا ما تتقارب منظورات نقد أدب الخيال العلمي وأدب الفنتازيا، بيد أن ثمة فواصل دقيقة بينها، تتأتى مما لكل أدب من استقلال وظيفي ومؤديات فنية وأغراض جمالية. ذلك أن لأدب الخيال العلمي أن يضم الفنتازيا في بناء أحداثه وتمثيلات شخصياته، في حين ليس لأدب الفنتازيا أن يكون علميا في متخيلاته. وهو في هروبه من الواقع يبقى واقعيًا. ولا تتطلب هذه الواقعية من القارئ تصديقًا، لأنها في الأساس وسيلة للإيهام وتحبيك البناء السردي، وبالشكل الذي يكشف عن دواخل الشخصيات ورمزية الوقائع.
أمَّا أدب الخيال العلمي فيعدُّ غير واقعي كونه يتجاوز الإيهام ويتطلب من القارئ تصديقا بالاستناد إلى الأساس العلمي الذي عليه يقوم فعل التخييل ومن خلاله تُرسم صور المستقبل البشري في ضوء التطورات العلمية المصوَّرة في أجواء أسطورية، تجمع بين الأحلام والحيل العلمية ولا تخلو من العجيب والغريب والفنتازي. ويذهب الناقد ديفيد سيد إلى أنّ أدب الخيال العلمي مرتبط بنمطين أدبيين متقاربين هما الرعب القوطي والفنتازيا، ولكن هذا التقارب لا يعني أن ليس ثمة فوارق جوهرية بين أدب الفنتازيا وأدب الخيال العلمي كما أن هذه الفوارق لا تعني إعلاء أدب الخيال العلمي على حساب أدب الفنتازيا، وإنما الأمر يكمن في الطبيعة الفنية والموضوعية لكل واحد منهما.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الأدبين يشتركان في ميزة واحدة، هي تمتعهما بالشعبية بين أوساط القراء. وسبب هذه الشعبية هو ما في أدب الفنتازيا من ضعف فني من نوع خاص؛ فهو يقوم على الأحلام وتداعيات المزاج التي ترتكز على الخوف الشخصي، وكذلك يتسم أدب الخيال العلمي بالضعف في بناء الشخصية والخلو من (التشخيص المقنع، فكتّاب الخيال العلمي سواء كانوا يتمتعون بالموهبة أم لا ليست لديهم المساحة للعمل على التطوير المدروس والعميق للشخصيات لأنهم ملتزمون بتقديم توطئة للعالم المتخيل ومغامرات الحركة والآلات).
ولا شك في أن أدب الفنتازيا قديم في حين أن أدب الخيال العلمي حديث، اقترن ظهوره بالثورة الصناعية الكبرى التي شهدها القرن التاسع عشر. وساهمت المجلات في انتشار قصص الخيال العلمي. وتقف رواية فرانكشتاين أو برومثيوس الجديد لماري شيلي في طليعة الأعمال الروائية التي تميزت بكتابة هذا اللون من الأدب. ومن أشهر كتّابه على النطاق العالمي إسحاق عظيموف وآرثر سي كلارك ومارغريت اتوود.
وتختلف الآراء النقدية في توصيف أدب الخيال العلمي، فهناك من يراه أدبا هجينا، تتداخل فيه الأنواع الأدبية. ويرى آخرون أنه أدب مهمش كونه لا يحظى باهتمام نقدي كاف. وما نراه هو أن أدب الخيال العلمي ليس جنسا أدبيا، لأنه - فيما يمتلكه من مقومات البناء الفني- يفتقر بصفة عامة إلى الحدية الإطارية والقابلية الاحتوائية، ومن ثم هو نوع أدبي ينضوي في القصة القصيرة أو الرواية. وهما جنسان أدبيان عابران (Trans literary genres) على الأجناس السردية الأخرى.
وبوصف أدب الخيال العلمي نوعا أدبيا، تتحدد ماهيته بأنها غير واقعيةUn-Real أو غير طبيعية Un-natural سواء من ناحية الأغراض الموضوعية أو من ناحية الخصائص الفنية.
ولا شك في أنَّ التطورات العلمية والتقنية المتسارعة في مجال علوم الحاسوب والتكنولوجيا الرقمية والتسلح النووي وحرب النجوم التي شهدها العالم منذ منتصف القرن العشرين قد أفادت أدب الخيال العلمي في تصوير موضوعات: السفر عبر الزمن، والارتحال في الفضاء ولقاء كائنات غريبة ودودة أو عدوة، وبناء مدن يوتوبية حالمة في المريخ، وإنشاء مستوطنات بشرية داخل جوف الأرض.. وما إلى ذلك. وعادة ما تسود هذه الموضوعات أجواء سلبية (ترتبط بما وصفه إسحق عظيموف مرارا بفوبيا التكنولوجيا. وتنعكس في الأدب الذي يعبِّر عن مخاوف الاستبدال البشري).
وفي القرن الحادي والعشرين أخذ أدب الخيال العلمي يفيد كثيرا من مستجدات تقنيات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا البيومترية والحوسبة السحابية وهندسة المحمولات والهندسة الوراثية وخرائط الجينوم البشري والأسلحة ذاتية التحكم ووسائل التواصل الاجتماعي والواقع الافتراضي المعزز بالذكاء الاصطناعي فضلا عن فلسفات ما بعد الإنسانية. وهذه المجالات التقنية والعلمية والفكرية تعدُّ (مؤشرا مركزيا على التغير الذي يشهده مجال الخيال العلمي)، وتشكل أيضا موئلا مهما يستقي منه الكتّاب موضوعات قصصهم ورواياتهم. الأمر الذي يسهم في بزوغ نوع من الأدب هو(أدب الذكاء الاصطناعي) وموضوعه الروبوت (Robot) الرجل الآلي أو الاندرويد وكذلك السايبورغ (Cyborg) أو الكائن البشري- الآلي المندمج. ولأدب الذكاء الاصطناعي سمتان رئيستان تميزانه عن أدب الخيال العلمي، هما:
- أن الروبوتات والسايبورغات هي الشخصيات المحورية الفاعلة، ومن خلالها يبني الكاتب سيناريوهات مستقاة من تكنولوجيا الآلات الذكية بأنواعها الطبية والصناعية والخدمة العامة والمراقبة والرعاية والاتصال والمحادثة بنماذجها اللغوية الكبيرة مثل ChatGPT وGemini وClaude.. الخ.
- أن التخييل ينصبُّ بالدرجة الأساس على تصوير الواقع المعيش من ناحية كون الروبوتات وتقنيات الآلات الذكية موضوعا نعايشه كل يوم بواقعية. ومن هنا يكون أدب الذكاء الاصطناعي واقعيا يرصد الحاضر والمستقبل القريب بعكس أدب الخيال العلمي الذي هو غير واقعي ويرصد المستقبل البعيد.
ولقد تجلى أدب الذكاء الاصطناعي في العقود الأخيرة على مستويين: الأول هو مستوى كتابة القصص والروايات من لدن كتّاب يوظفون مخيلتهم في ضوء مستجدات التكنولوجيا المعاصرة ببعديها النظري والتطبيقي. والمستوى الآخر هو مستوى الدعاية والإعلان؛ إذ كثيرا ما نلمس مع طرح أي إصدار أو منتج جديد في مجال تكنولوجيا الروبوتات، حملة إعلامية توظَّف فيها سيناريوهات مستلّة من أساطير وحكايات وقصص، فيها آلات عجيبة ومخلوقات سحرية بأجواء فنتازية وغرائبية. والهدف استقطاب الاهتمام وجذب الأنظار، وبالشكل الذي يولِّد في نفوس المستهلكين الرغبة نحو استعمال الإصدارات التكنولوجية الجديدة في أعمالهم الحياتية.
إن هذا التطور المذهل في تصنيع الآلات الذكية يمثل تحديا كبيرا أمام كتّاب الخيال العلمي عامة وكتاب أدب الذكاء الاصطناعي خاصة؛ إذ المطلوب منهم أن يحلقوا بمخيلاتهم تحليقا فنيا يواكب مستجدات العلوم المعرفية والتقنيات الذكية وفي الآن نفسه يستبقها، ويرسم مآلات المستقبل القريب أو البعيد لحال البشرية على كوكب الأرض. وهم بذلك إنما يؤكدون قدرتهم على الإفادة من التقدم العلمي في ابتكار متخيلات فنية جديدة ومختلفة في مجال تكنولوجيا الآلات الذكية.
ومن المهم الإشارة إلى أن أدب الذكاء الاصطناعي لا يشتمل على تلك النصوص المكتوبة بطريقة المؤلف الاصطناعي، لسبب جوهري هو افتقارها إلى الوعي الذاتي والإحساس الإنساني الذي هو أهم دعامة في كتابة النص الأدبي. هذا فضلا عن أن الآلة لا تقدر على ابتداع الأصيل لأنها تعيد إنتاج مخزونات الإنترنت فيما يخص عوالم الأدب. وعملها يقوم على محاكاة الدماغ البشري بطريقة التعلم العميق وبذاكرة ضخمة. ويمكن تشبيه عملية المحاكاة بما أورده أبو نصر الفارابي عن مينون أنه سأل سقراط قائلا: تقول إننا لا نتعلم شيئا، بل ما نسميه تعلم هو في الواقع تذكر؟ أتستطيع أن تبرهن على ذلك؟ فقال سقراط: احضر لي أحد هؤلاء العبيد، فجاء بواحد. وراح سقراط يسأله عن الطول والعرض وكم يساوي إذا كان كذا وكذا.. ثم قال: أتلاحظ يا مينون أني لم أعلّمه شيئا، بل أكتفي بتوجيه السؤال إليه.
ولا شك في أن عملية المحاكاة بالتعلم العميق تترتب عليها مؤاخذات أخلاقية وتبعات قانونية تطول عمل المؤلف الاصطناعي. وهي بالمجمل تتنافى مع ما ينبغي أن يتحلى به المؤلف البشري من بحث عن الأصالة واحترام الملكيات الفكرية. أما مسألة توظيف المؤلف البشري لمتخيل المؤلف الاصطناعي فأمر متاح؛ فالكاتب الفرنسي فيليب فاسي وظَّف في روايته (نسخة العرض) برنامج سكريبت ريجيناتور.
ونذكر من أدب الذكاء الاصطناعي على الصعيد العالمي مجموعة قصص (أنا الروبوت) 1950 و(الروبوت الكامل) 1982 لإسحاق عظيموف ورواية (نيورومانسر) 1984 لوليام جيبسون ورواية (العصر الماسي) 1996 لنيل ستيفنسون و(الرواية الأخيرة) 2016 لانتوني التمان.
وتعود بداية أدب الذكاء الاصطناعي على صعيد العربي إلى ثمانينات القرن العشرين تقريبا. ومن أوائل القصص المنشورة في هذا العقد قصة (الأجراس) للكاتب العراقي جهاد مجيد. وفيها وظَّف شخصية الروبوت، ورسم من خلال ذلك صورا للواقع المنظور الذي فيه عدد مصانع الروبوتات وصل إلى 13000 في اليابان و4500 في الولايات المتحدة و2500 في أوروبا الغربية. و(إحدى الشركات قامت بتصنيع روبوت متعدد الخدمات.. وأن طلبات كثيرة قدمت لشرائه من قبل دول وجهات مختلفة.. وكذلك شركات فيات وجنرال موتوروز لاستخدامه في صبغ السيارات. وتقدمت إحدى الشركات العربية في القاهرة بطلب مماثل. وتفكِّر هذه الشركات بتسريح نصف عمالها) وموضوع التسريح هو الذي عليه سيبني السارد الذاتي وجهة نظر أخلاقية للمآل الذي ينتظر قطاعات العمل المختلفة حين تستغني عن اليد العاملة البشرية وتستبدلها بآلات جامدة لا مشاعر لها.
وبطل القصة وساردها الذاتي هو هاشم العامل الأقدم في مطعم الإخلاص الذي اعتاد العمل مع راضي وكامل وجاسم. وكان كثير الفخر بما يمتلكه من حذق في بناء العلاقات الإنسانية مع الزبائن (كل زبائن مطعم الإخلاص أصدقائي يكتفون بتحيتي ولا يفوهون بطلب شيء، فالباقي متروك لي ولم أخيب ظنهم يوما.. أما الزبائن الجدد فأدقق في طلباتهم وألبيها وأحفظها لمرة قادمة).
ويتغير مسار الحياة العملية حين يستورد صاحب المطعم روبوتا، وعلى إثر ذلك يقوم بتوسيع مساحة مطعمه ويغير اسمه إلى مطعم الأجراس ويضيف إليه ألواح الزجاج المعتم، تؤطرها مصابيح تتلاحق في انطفائها واشتعالها مع زيادة عدد نباتات الزينة والأراجيح والمناضد اللماعة. وهذا كله أوجب زيادة أسعار الأطعمة وتسريح الثلاثة كامل وجاسم وراضي من عملهم. أما هاشم فأبقاه صاحب المطعم لبراعته مع الزبائن وكذلك أبقى سالي الكاتبة على الآلة الحاسبة.
وحاول هاشم بادئ الأمر التأقلم مع الوضع الجديد المتمثل بوجود الآلة الذكية في المطعم (أن شكله مقبول بل حسن يماثل شكل أي آدمي حسن المنظر نحيف معتدل القامة غير جامد القسمات حتى إنني ظننته مرة كاملا (يقصد العامل كامل) وظنه كذلك أحد الزبائن، وهو من معارف كامل الجيدين غير أن الرجل خجل حين تكشف له الأمر ثم قال بأسف: أين كامل وكلمته اللطيفة بعد أن ننتهي من الأكل. آه إنها ترن في أذني: عوافي).
ويواجه هاشم مع تقدم الأحداث معاناة كبيرة مع الروبوت، وتبلغ الحبكة ذروتها حين تختفي العلاقات الإنسانية، ويتوجب على هاشم أن يتسابق مع الروبوت الذي كان ينجز العمل بلا عواطف في حين كان هاشم ينجز عمله على وفق ما تمليه عليه مشاعره سواء وهو يقوم بخدمة الزبائن أو وهو يراقب سالي. ويترصد حركاتها أو وهو يتلقى بغيظ عبارات صاحب المطعم التي بها يحضه على التسابق مع الروبوت. وتظهر نقمة هاشم وحقده على الروبوت واضحة حين يأخذ بعض الزبائن بإعطاء الروبوت قطعا نقدية (بخشيش) (انفجر الزبائن القريبون من المائدة ضاحكين.. مدت إحدى السيدات. يدها لتقرص الروبوت من خده فازداد ضحك الجالسين ومرحهم. ازداد غيظي ورغبتي في تحطيم الأطباق على رأسه).
ويسهم توظيف الاسترجاع الزماني والحوار الخارجي والتداعي الحر والمونولوج الداخلي في تجسيد نقمة هاشم على الروبوت. ومن التداعيات مثلا أن صاحب المطعم ما أن قال لهاشم: (ما هذا؟ أنت أشطر عمال المطاعم، فكيف سبقك؟) حتى تداعى في داخل هاشم هذا المونولوج الصامت (اللعنة على هذا الروبوت وعلى ذلك المساء الذي سمعنا فيه خبره) أو قوله: (خصمي هذا الذي يروح ويغدو بين الموائد يلبي كل ما يطلب منه بدقة اغاظني كثيرا وهو يتقاطع معي في مماشي المطعم). ومن الاسترجاعات استذكار هاشم لحادثة شجار كانت قد نشبت بين جاسم وراضي وبسببها تقاذفا بالأطباق وسالت الشتائم والتهديدات بينهما.
وترد إشارات رمزية كثيرة تؤكد أن دقة الروبوت الآلية وجموده العاطفي سببان مهمان في تنظيم العمل فهو بمجرد أن يسمع جرس الزبون، يهرع مسرعا نحو المصدر ليقوم بالخدمة. وعلى الرغم من ذلك، فإن في الربع الأخير من القصة مفارقة فنية، معها يخيب أفق توقع القارئ، ذلك أن تلك الدقة التي عُرف بها الروبوت كانت ترافقها أخطاء، سببها عدم امتلاكه حواس الشم والتذوق واللمس فهو مثلا لا يميز الرز العنبر عن الرز الأمريكي. وهذا ما أدى إلى خسارة المطعم لبعض زبائنه من الذين اعتادوا ارتياده على مدى السنين السابقة ومنهم الرجل صاحب الكتب. وتنتهي القصة وقد أسقط العامل هاشم من ذهنه كل الاحتمالات المترتبة على التنافس مع الجهاز المعدني «الروبوت» واستمر مأخوذا يتأمل مفاتن سالي الباذخة المشعة بالسحر، في إشارة رمزية إلى أن المشاعر الإنسانية هي التي ستتغلب في علاقة البشر بالآلات الذكية.
ويشهد أدب الذكاء الاصطناعي على الصعيدين العالمي والعربي ازديادا ملحوظا في العقدين المنصرمين. ومن القصص والروايات العربية (مغامرات الروبوت الشغال) للسيد نجم و(العودة إلى الأرض) لعبد الهادي السعدون و(دولة الروبوت) لبسام عبد السميع.
مؤدى القول إنَّ التقارب الفني والموضوعي يبقى قائما بين الفانتازيا قديما والخيال العلمي حديثا والذكاء الاصطناعي راهنا، غير أن ذلك لا يحول دون أن تكون بينها فوارق منظورة على صعيديّ الكتابة الإبداعية والتحليل النقدي.