سهام القحطاني
«إن الفنطاسيا هو قوة نفسية مدركة للصورة الحسية مع غيبة طينتها». - الكندي -
هل كلما تطور العقل الإنساني تحرر من الخرافة وفكرة الخوارق أو اشتاق إلى العودة إلى الخرافة وتوسع في عالم الخوارق؟، وهل هذا الاشتياق مؤشر تخلف أو مؤشر للسعي من التحرر من قيود الواقع الذي يضيق بقدرات العقل في عمقها المعرفي اللامرئي أو مؤشر على قدرة الإنسان على استثمار الفتوحات العلمية؟.
يرى «ألبيريس» في كتابه «تاريخ الرواية الحديثة» أن تطور النظريات الفيزيائية والرياضية جعلت الإنسان يكتشف أنه يملك القدرة على خلق مصفوفات من الفنتازيا –الوهميّة - الذهنية المحضة لعوالم افتراضية تستثمر نظرية الأكوان الموازية وتعدد الأزمان، وتحقق له متعة المغامرة والتسليّة.
فإن «العجيب الذهني ليقوم آنذاك على كثرة تعادل العالم، هذا العالم الذي لم يعدّ يتصور على أنه كون واحد متجانس بل إنه أكوان عديدة متوازية.. وتعدد الأزمان مما أتاح فضاءً واسعاً قابلاً لملئه بتخيلات قائمة على متعة المغامرة.» - ألبيريس -
وبذلك فمصفوفات الفنتازيا تكشف عن صراع موقف الإنسان مع ذاته العارفة أو المتمردة للغوص نحو المعرفة المجهولة المحررة من قيود العقل والمنطق، التي قد يعتبرها المرء تسويراً لقدراته على التوغل في مجهول المعرفة.
وبذلك فالتوق يعود إلى التقنيات السردية، «الهندسة الخارقة للعالم الحقيقي» – ألبيريس - التي تجذب دهشة المتلقي لعالم رحلة المتخيل «عالم يحتوي معنى خفياً».
وساحريّة ذلك العالم قدرته على جعل المتلقي شريكاً تفاعلياً في ذلك العالم، ليجد نفسه هو من يحدد مقاييس منطقية ذلك العالم والتحكم فيه، وهذا ما يجعله يظل منجذباً له ومندهشاً به؛ إحساسه بقوة التحكم في قيادة ذلك العالم هذه الاستقلالية المنفلتّة من قيود الواقع هي التي تجذب المتلقي له؛ لذا لا غرابة من أن معظم جمهور هذا النوع من التقنيات السرديّة من المراهقين الذين يعانون من أزمة وصاية من الواقع المحيط بهم، فهي تمنحهم فرصة الإرادة الحرّة في قيادة عالم بلا قيود بقوة الخيال «الذي يجوب الوجود بإحساس مطلق بالحرية المطلقة، لما يختار هو أن يرسمه من قوانين وحدوده، « - كما أبو أديب - الأدب العجائبي» ص8 -
فالهواة والمعجبون « يجدون في هذه الحكايات الفظة المضطربة لا درساً ولا تقليداً بل المخيلة في حالتها الوحشية» - ألبيريس - ت/جورج سالم -
ليس بالضرورة أن تستند الفنتازيا إلى جدار فكري أو فلسفي أو تأملي كما نجد عند إبراهيم الكوني، بل وليس هذا ما يمنحها تنافسيّة القيمة الفنية مع الرواية التقليدية، بل ما يمنحها قيمتها الفنية هندستها السردية الخارقة لجدار الواقع «المهارة التي تحقق للمتلقي متعة ذهنية محضة»، وتحول»الوهم الذهني إلى ألعاب من ألعاب الفكر»، وهذا «الوهم الذهني يعتمد مسلمة أساسية هي تعقد العوالم، فلا توجد حقيقة من حيث هي حقيقة بل كمدخل لحقيقة أخرى ممكنة» كما يرى ألبيريس‘ «فالأدب الوهميّ» في مهاراته، « التعبير القائم على تعدد خيالي لما هو فائق الطبيعة».
فالصنعة من خلال مهارات التقنيات السرديّة هي التي تحتفظ بقيمة هذا الأدب في مصفوفاته المختلفة، فجاذبية الحكاية العلمية مثلاً في رأيه أنها « تستطيع أن تخلق مواقف نموذجية قائمة على المفارقات»، فسحر سرديتها هو سحر ذهني محض» يتعلّق بالموقف الذهني للمتلقي من سحريّة تلك السرديّة، وهو ما يطلق عليه «تودوروف» في كتابه «مدخل إلى الأدب العجائبي» باسم «التردد» الذي يحمله المتلقي أمام النص العجائبي، فهو الذي يتحكم في نسبة وجود العجائبية في التجربة الفنتازيّة بتمثله إياها، وكلما ألِف القارئ الصياغة العجائبية أو الغرائبيّة عبر التقنيات السرديّة زال عنها «صفة العجائبيّة أو الغرائبية»؛ ولذلك فليس هناك غريب أو عجيب على المطلق والأمر يعتمد على تآلف المتلقي مع تقنيات سرديّة العجائبي. وهو ما يعيدنا إلى ما عبر عنها الكندي «بقوة نفسية».
وتتجاوز الفنتازيا محاكاة تجربة واقعية إلى «اختلاق صياغة مختلفة عن المرئي المألوف» أو كما يسميها ألبيريس «قوانين هندسية مخالفة للمألوف» مع ثبات الثيمات الأدبية، التي تسهم في «لعب مستمر بالواقع والوهم وتشكل تسليات وألغاز رياضية أو فلسفية لتميز بنية الوهمي العجيب «.
لذلك فما يجذب المتلقي إلى الفنتازيا ليست قيمتها الفكرية بل حينما تكون بلا وصاية فكرية بل مهارتها في صياغة أو اختلاق هندسة سرديّة تأسر المتلقي.
إن أسباب شغف المتلقي بمصفوفات الأدب الفنتازي؛ هي انجذابه إلى روح المغامرة وتطور صناعة الترفيه وخاصة السينما والألعاب الإلكترونية، وكسر حاجز حدود التصديق والحقيقة والمفاهيم أو اختبارها من خلال «تحدي النزعة البدائية داخل أعماقنا ووضعها أمام لحظة الحقيقة» كما يقول القصيبي على لسان «ضاري الضبع» بطل رواية الجنية.