د. شاهر النهاري
بداية، فأنا لم أقرأ إنتاج الكاتب الجديد أسامة محمد المسلم، فأنا في نقدي هنا أتناول الظاهرة بشكل عمومي، ولا أتقصد اشعال الحروب بين الأجيال، لكون الكتابة في العجائبيات من رعب وفنتازيا وتشويق وخيال علمي تعتبر متلازمة عصرنا، ولعلي أركز على تأثيرات مواقع التواصل الفاعلة، وتغير قدرات مؤسسات صناعة النجوم وخدمة المحتوى، والتي تتناقص فيها القيمة الأدبية أو الفنية للكاتب بمفرده، بسياسة إعطاء الخبز لخبازه، ضمن أعمال شركات ربحية، تنوع ابداع خبازين متفاهمين متخصصين متشعبين يستطيعون تكامليا طحن وعجن الفكرة، وتخميرها وتضبيط وإعادة ترتيب وتشذيب وتحسين المنتج، مستغلين أي ميزة في شخص الكاتب، لجذب جيله، والأجيال من بعده، ولا أحد يتوقع أن يكون تحدي نجيب محفوظ الأمس، ولا معاناة غادة السمان، ولا منتهى الضياع بمثل كُتاب حاولوا صنع سردهم بأنفسهم، وتجرعوا الماء مع كسرة خبز، معاندين تيارات التنافس الربحي، وعابرين المراحل بذواتهم، وبقدر ما يملكون من فنون قص ورواية حاولت التعايش مع الواقع والتنافس بقدراتهم الذاتية قصيرة الأيدي.
هل أنا ضد أن يكون للكاتب فريق عمل يساعده على التميز وتخطي الصعوبات، وخلق الزخارف، وتشييد وتثمين القيمة والمكانة والمحتوى وصنع البهرجة؟
بالطبع لا، بل على العكس، فلكل وقت أذان، وزمان ودولة ورجال وأدوات، ولو عرض على أي كاتب منسي من أهل العهود الماضية في بداياته مثل هذه التدخلات، وتمكينه من كيفية الظهور المبهر، وتدريبه حتى على المقابلات الصحفية، بإجابات وردود فعل مدروسة، لما تردد في ذلك، فليس كل مبدع مغرم ببدايات الصفر، ولا التعثر في الحفر والغبار وتأخير ظهور وتعثر قطف النجاح واللمعة، أو حسرات أن يعامل كالنسي المنسي.
فنون السرد العجائبية ليست جديدة على الثقافة العربية، ولعل أهم مواردها في كتاب ألف ليلة وليلة، وقصص كليلة ودمنة، والتي ما زالت تعيش بيننا، وتجذب أبناءنا، بما فيها من عجب، خصوصا قبل أن تدخل الرسوم المتحركة لعوالم السرد، فوجدنا من عاشوها وعشقوا قفزاتها وتبايناتها، وقدراتها، وهي تحاكي مجاهيل الجن والعفاريت والسحر، وتجعل من السهل نطق الأشياء المركبة، وحركاتها المماهية للكائنات، ومحاولات تعقيلها، وامدادها بالمشاعر الإنسانية، ولو أن الحدود كانت تختلف، فلا أظن سقوط توم أو جيري من فوق شاهق يبعثر ترابهما، ويؤكد على نهايتهما، بل يزيد العناد في وجودهما، ويعود بعد اللقطة بعنفوان فنتازيا تخيلية، بأنشطة لا تنتهي ولا تهين، وكل ذلك لإدخال القارئ أو المشاهد في عوالم أشبه بلمسات السحر، وبما يبنى له من خيالات مقاييس وحدود مبتكرة وقدرات لا نهائية، أكملتها الكاتبة الإنجليزية «جوان رولينغ» في حكايات الجن والعفاريت «هاري بوتر».
النمط الأدبي الرومانسي القديم يصعب إيجاد هواة ومتابعين له، كونه لا يتماشى مع العقلية والحياة الجديدة للجيل، الذي يختلف ويتميز ويطلب ما يشبهه وسط تقنيات عجائبية ومبتكرات ذكاء يفرضها العصر، والخيال العلمي، وتوالد أجيال من الذكاء الاصطناعي والروبوتات، ومشاهدات أجهزة تغزو الفضاء متأنسنة تتفاعل ولو بأصوات معدنية، متشبهة بالإنسان، يصعب مقارنتها بما كان يحدث في عصور ما قبل التقنية، وما فاضت به الرومانسية والتراجيديا، بمعاناة تكاد تكون مضحكة للأجيال الحالية.
تصور شباب سعودي يعشقون مغنيا من كوريا، ويحفظون أغانيه، ويفهمون مغازيه، ويقلدونه في حركاته، ويتزاحمون على مواطن رؤيته، وهو يهز أردافه، ويشق صفوف متابعيه من كل الأجناس، فهل يمكن منع ما يحدث، أو تعقيله، أو الفيض بالنصائح على هؤلاء المتابعين المراهقين، من وجدوا دهشة ضالتهم فيه، ووجدوا فرق صناعة المحتوى والنجوم الجدد، وبمواصفات مغرية الجدة والجذب.
ونعود للأدب العجائبي، فقد قمت منذ حوالي عقد من الزمان بكتابة روايتي (تهريج وزغاريد)، وكان لها نجاح عند من تعنوا وقرأوها، ولكن الدعاية لم تكن موجودة، ما جعلها تنحسر بعد فترة، وتصطف على الرفوف مع أعمال أخرى لم يكتب لها الدعم، ولا عرفت صناعة المحتوى، رغم أنها كانت تحتوي من العجائبية والخيال العلمي ما يستحق أن يكون.
هل كان الخطأ مني، أو أن قصور صناعة النجوم حينها واقع، فلم أجد الدعم، ولم أوقعها في كل معرض كتاب، ولم أركب سيارة فارهة تغري المعجبين على اعتراض سيرها، بصرخات مراهقين ومراهقات يعرفون أن النجم منهم، سعى وتميز، وكان بين ليلة وضحاها، وبأفضل ما يمكن من الظهور، وتقبل كل حركة ولفظ وابتسامة بعيدة عن التلقائية.
السوق خير مكتشف وموجه ومُثَمِن، وله الكلمة العليا، ولو مؤقتا، وقيمة الكاتب لم تعد بما يخطه على الأوراق فقط، بل يحتوي الكثير من الحيثيات والبهرجة والزغاريد أكثر مما كنا ككتاب منفردين قادرين على الإتيان بمثله.
أنا لست ضد أي تجربة أو موضة جديدة، ولا أحكم بفشل ما يحبه الجمهور، حتى ولو كانت صرعة سرعان ما تزول، ولن ألوم توجهات شركات صناعة المحتوى، التي يهمها أن يكون النجم صغيرا طيعا، قابل للتغيير والتطوير، وسماع النصائح، ومساعدتها على تضخيم وبهرجة الرواية إلى ما هو أكبر من السرد، هدفا لجني النجاحات المربحة لها، حينما ترتب للمقابلات الجاذبة، ووضع الرواية على سلم الإنتاج السينمائي، وصنع المحتوى، الذي لم يعد للكاتب فيه إلا أقل القليل، ينتهي بترشيحه للجوائز العالمية ضمن مجهودات فريقه الفاعل من حوله. صدقا، أتمنى للكاتب المسلم كل خير، وأن يكون لما يفعله هو وجيله أثر إيجابي على الرواية السعودية، وألا تضيع جهودهم في لمعة البهرجة، وألا تعيد ترتيب الروائيين، بجور على العصامي منهم، الذي عصر مداد قلبه ليجد إعجابا واحدا، وتبجيل يحوز بعض الأضواء.
السرد، يمكن أن يصبح عجائبيا، خصوصا بعد تأكيد دعمه بقوة الدفع الخلفي، فيفوز حينما يخطف أنظار وأضواء الصغار الأمامية.