عبدالله العولقي
خلال العقود الماضية، سار الأدب الغرائبي أو أدب الفانتازيا كما يسميه بعضهم ضمن مساره الخاص في ثقافتنا العربية دون أن يُحدث أيَّ ضجةٍ أو حراكٍ نقديٍ أو فكريٍ، فهو أدبٌ خاصٌ له جمهوره من الشباب المراهقين والأطفال ومحبي وعشّاق هذا النوع من الأدب الذي يعتمد على الخيال والتشويق واللا معقول بالدرجة الأولى، الروائي السعودي أسامة المسلم هو منْ أحدث كلّ هذه الضجة خلال العام الماضي، فهو الرقم الأول في هذا النوع من الأدب في ثقافتنا العربية، فعند حضوره لأيِّ محفلٍ ثقافيٍ أو أدبيِّ تصطفُّ الطوابير الطويلة من أجل لقائه، فجمهوره يلاحقه حيثما حلّ وارتحل في كل البلاد العربية، فالكلّ يريد أنْ يحظى بتوقيعه له على روايته، لدرجة أنّ كثيراً من حفلات التوقيع أُلغيت بسبب الحشود الكبيرة وعدم قدرة الأمن السيطرة على الموقف، هذه الضجة الإعلامية صاحبها انقسامٌ نقديٌ كبيرٌ تجاه هذا النوع من الرواية، فهل يمكن تصنيفه نوعاً من أنواع الأدب أم أنه لا يرتقي إلى أنْ يصل إلى هذا التصنيف؟!، بعض النقاد لا يُحبّذون هذا النوع من الأدب ولا يتذوقونه، ويرون أنه لا يرقى إلى أنْ يُصنّف نوعاً من أنواع السردية الأدبية ، وآخرون يرونه واقعاً روائياً لا يُمكن إنكاره، فهو أدبٌ له كتاباته وكُتّابه وجمهوره، ومسألة رفضه وإنكاره لا تتواءم مع حركة تطوّره ونموّه في الآداب العالمية!!.
إذاً ما هو الأدب الغرائبي أو الفانتازيا؟، إنه عملٌ أدبيٌ يتحرر من منطق الواقعية والحقيقية من خلال سرديّة تستند إلى الخيال البعيد أو خرق قوانين الطبيعة، فالفانتازيا لفظة لاتينية قديمة PHANTASIA استعملها الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو، وعنه انتقلت إلى فلسفة القرون الوسطى للدلالة على الخيال أو الصورة الحسية في الذهن، وأول من استخدم هذا المصطلح في ثقافتنا العربية هو الفيلسوف الكندي في رسالته الفلسفية عندما قال: إنّ التوهم هو الفنطاسيا، وهو قوة نفسية ومدركة للصورة الحسية، والحقيقة أنّ الأدب الروائي بشكلٍ عامٍ لا بدّ أنْ يحتوي على نسبةٍ معينةٍ من الغرائبية منْ أجل إحداث الدهشة في نفس المتلقي أو القارئ، لكنّ هذه النسبة تختلف من كاتبٍ إلى آخر، فمعظم الروائيين يستعملون هذه الخاصية أو التقنية الفنية الخيالية من أجل التشويق، ولكنّ الإغراق الموحل في استعمالها بصورة كاملة هو الذي يحوّل العمل الروائي إلى أدب غرائبي أو فانتازيا.
لو تأمّلنا تفاصيل الذاكرة الشعبيّة المحليّة في ثقافتنا العربية من خلال حكاياتها المتوارثة سنجدْها لا تكاد تخلو من الغرائبية ذات البعد الأسطوري التخيلي، وهذا ما جعل الكثير من الروائيين العرب يستعينون بهذه الشعبيّات المرويّة ليخلقون منها أدباً غرائبيّاً كما فعل جمال الغيطاني في روايته (حارة الزعفراني)، وكذلك أديب نوبل نجيب محفوظ في روايته (ابن فطومة)، ولعلّ آخر رواية قرأتها من هذا النوع كانت للأديب العماني زهران القاسمي (تغريبة القافر) التي اعتمدت على السردية الشعبية العمانية تجاه اقتفاء الماء وتتبع أثره في الأرياف، وهي رواية فائزة بجائزة البوكر العربية وتستند في تقنيتها السردية إلى الغرائبية أو الخارقية بصورة كبيرة جداً.
وحتى نفهمَ شغفَ القرّاءِ الشباب بهذا الفنّ الروائي فلا بدّ منْ فهْم أمرٍ فلسفيٍ عنْ خبايا النفس الإنسانية، فعندما يُولد الإنسان تُولد مع طفولته مشاعر الدهشة وغريزة التعجب من قصص اللامعقول أو حكايات الخيال الغرائبي ، وهذه التقنية الحكائية يستعملها الآباء والأمهات دائماً عند خلق الحكاية لأطفالهم الصغار!، وكلّما يكبرُ المرءُ تبدأ الثقافة المحلية من حوله بالسيطرة على ذهنيته واختطاف تلك المشاعر الطفولية، ومع مرور السنوات والأعوام يفقد الإنسان شغفه وتعلقه بالخارقية أو الخيال البعيد، بل ربّما يصل به الأمر إلى السّفه به وربطه بمرحلة الطفولة أو بالتناقضية مع العلم والوعي، متجاهلاً أنّ الخيال الخارق جزءٌ أساسيٌ من شخصية الإنسان وتكوينه الفطري، فهذا النوع من السردية الأدبية – الفانتازيا - ما هو إلا سردية تعيش مع فطرة وبراءة تلك الدهشة الأولى، فهي سرديّة تتلاءم مع غريزة التعجب الأولية، ولو تحدّثنا عن كُتّاب هذا الفنّ الروائي، فليس أيُّ كاتبٍ لديه القدرة على إتقان سرديّة هذا النوع من الأدب، فهذا النوعُ من الكتّاب يحتاجُ إلى شخصية كتابية معينة لديها خاصيتان مهمتان تتعلقان بالخيال ، أولاً: القدرة على خلق وابتكار فكرة الخيال الممتد والغارق في الخارقية أو المستحيل، وثانياً: القدرة الكتابية الإبداعية على إقناع القارئ أو المتلقي بالصورة التخيليّة المرسومة داخل سياقها الروائي، وبدون ذلك سيفتقد العمل الروائي عنصر التشويق الذي يُعدُّ العنوان الآخر لهذا الفنّ الإبداعي، ولو تأمّلنا روايات الكاتب أسامة المسلم سنجدها تتسم بهاتين الخاصيّتين، فإقبال القراء الشباب والمراهقين على أعماله ما هو إلا انعكاس لقدرة الكاتب الإبداعية على صناعة التشويق الخيالي وجذب المتلقي لهذا الجنوح البعيد عن الواقع والغارق في أبعاد المستحيل!.
لا بدّ لتقنية القصص الخارقية أنْ تغوص في خيال اللامعقول الغرائبي المتوافق مع ذهنية المرحلة الأولى من حياة الإنسان، ولذا نجدُ أنّ البعض لا يُقبلون على هذا النوع من الأدب كون أنّ تلك الدهشة لديهم قد انغمست في مراحل عمرية معينة لا تتوافق معها، فلمْ تعد القصص الغرائبية تثير في دواخلهم الدهشة أو التأثر من السردية التخيلية على عكس بعضهم الذين لا تزال نفوسُهم تمتلك شيئاً من كوامن الطفولة الأولى، فتجدهم مندمجين مع هذا النوع من الأدب ويهتمون به، ويجدون فيه من المتعة والاستمتاع ما لا يجدونه في سردية الأنواع الأخرى من الرواية!
يقال إنّ الكاتب التشيكي الشهير كافكا عندما قرأ الصفحات الأولى من روايته (المسخ) على أصدقائه المقربين غرقوا في الضحك، واستغربوا أنْ تصدر هذه السردية الغرائبية من هذا الكاتب الكبير، فلمْ يجدوا في هذه الكتابة شيئاً يستحقُّ الاهتمام والنقد، لكنّ الرواية اليوم تُعد من روائع الأدب العالمي، وقد تُرجمت إلى معظم اللغات العالمية تقريباً، فالأدب الغرائبي محلُّ اختلافٍ دائمٍ وجدلٍ مستمرٍ حول سرديته الخاصة وأفكاره وقبوله عند النقاد والجمهور بشكل عام، ويعتبر الفيلسوف الفرنسي تودوروف (1939م - 2017م) أول منْ أطلق مصطلح الفانتازيا على هذا النوع الإبداعي التخيلي من الأدب، وكعادة الأوروبيين في استخفافهم بالثقافات الأخرى يؤكد تودوروف في كتاباته النقدية أنّ الغرائبية صنيعة العقل الأوروبي أولاً، ثم انتقلت إلى الآداب الإنسانية الأخرى!!.
في كتاب (الأدب العجائبي والعالم الغرائبي) للمؤرخ السوري الكبير كمال أبوديب نجد رداً وافياً على أسبقية العقل العربي إلى هذا النوع من الأدب التخيلي الإبداعي، فقد حقق أبو ديب كتاب (العظمة) للمؤرخ القديم أبو الشيخ الأصفهاني (ت 979م) وأثبت من خلاله أنّ العرب لهم الأسبقية التاريخية في هذا النوع من الأدب التخيلي، كما يرى أبو ديب أنّ فنّ المقامة الذي اخترعه الأديب بديع الزمان الهمداني هو أصل هذه السردية التخيلية وأساس فن الفانتازيا في الأدب الإنساني، فهو أولُ عملٍ خياليٍ يُروي على ألسنة الناس وليس على ألسنة الحيوانات كما في الآداب الأخرى، ويتضمن سمة المغامرة التخيلية لبطل المقامة الهمدانية المتسوّل (أبي الفتح الإسكندري)!!.
ففي تراثنا العربي نجد هذه السردية موجودة منذ قرون عديدة، فحكايات ألف ليلة وليلة وتغريبة بني هلال وسيرة سيف ذي يزن ورحلات ابن بطوطة كلها غارقة في الأدب الغرائبي، وجميعُها تحمل في سرديّتها معاني من جنوح الخيال البعيد والدهشة الإبداعية وتحمل خصيصة اللامعقول والبعد عن الواقعية، وحتى بعض الكتب التراثية في مكتبتنا العربية مثل كتاب «المستطرف في كل فنٍ مستظرف» نجد أنّ مؤلفه شهاب الدين الأبشيهي يروي حكايات مكثفة في الأدب الغرائبي التي سمعها مباشرة من الحكائين في زمنه وبسردية فنية لا تختلف عن أدبيات الفانتازيا اليوم، وكذلك المسعودي في كتابه مروج الذهب، وغيرهما كثير في تراثنا العربي.
خاتمة القول.. يحضر التساؤل النقدي المهم هنا حول الأدب الغرائبي الحديث في بيئتنا العربية، وأعني هل ظاهرة أسامة المسلم تعكس حاجة ثقافتنا إلى هذا النوع من الأدب الإنساني، بمعنى أنّ أدبنا الروائي الحديث قد افتقر إلى هذا النوع من الأدب الذي سدّ المسلّم فراغه بقصدٍ أو عنْ غير قصدٍ؟، أم أنّ هذه الظاهرة ماهي إلا مرحلةٍ زمنيةٍ معينةٍ سنتجاوزها وستعود الرواية التقليدية إلى تسيّد الموقف الثقافي؟، عاملُ الزمنِ مهمٌ هنا في تحديد الإجابة!.