أ.د. محمد خير محمود البقاعي
لقد كانت الحملة على الدولة السعودية هي التجربة الأولى لجيش محمد علي خارج مصر، وظهر من حملتي طوسون والباشا نفسه أن القوى متقاربة، لذلك لم يحقق أي انتصار حاسم. ولا بد أنه استشار في الأمر صفيه وصديقه دروفيتي الذي نصح له إعادة بناء الجيش المصري على الخطط العسكرية الغربية الجديدة، ويبدو أن الأمر لقي قبولا لدى محمد علي وحاشيته، ولما أسند الحملة إلى ولده إبراهيم دعمها بالخبراء العسكريين والضباط والأطباء ورجال الاقتصاد، ولكن عنجهية إبراهيم باشا تحطمت في بداية الحملة على صخرة الصمود السعودي، وبدأ اليأس يتسلل إلى نفسه. لجأ إبراهيم عند أسوار شقراء إلى مشورة فيسيير الذي انتهز الفرصة، وبدأ برسم الخطط التي أفضت إلى ما أفضت إليه من حصار الدرعية، وانتهى الأمر بهدم أسوارها، وقتل أهلها وأئمتها. ولما أراد إبراهيم باشا نقل البشرى لوالده أرسل فيسيير الذي يقول غيمار: إن إبراهيم لم يعد يستطيع فراقه، ويحرص كل الحرص على استشارته في كل شأن. ويبدو أن محمد علي استجاب لدعوة دروفيتي في إعادة بناء الجيش المصري عسكريا وإداريا وعقائديا بعد الانتصار الذي حققته الحملة على الدولة السعودية الأولى، ووجد أن فيسيير لم يعد صالحا للمهمة، لقد كان معجبا بالنظم العسكرية الفرنسية، فأسندها إلى ضابط فرنسي آخر يكتنفه غموض كالغموض الذي اكتنف سيرة سابقه؛ إنه جوزيف أنثيليم سيف (1788- 1860م) Joseph Anthelme Sève الذي أسلم وتسمى سليمان باشا الفرنساوي. كان محمد علي بعد حملة الدولة السعودية الأولى يفكر في توسيع ملكه، وكان قد رأى الجيش الفرنسي إبان حملة نابليون على مصر فكلف سليمان باشا بمهمة تكوين النواة الأولى من الضباط الذين سوف يعاونونه على تدريب الجنود فاختار له 500 من خاصة مماليكه ليبدأ بهم، واختار له أسوان لتكون معسكراً لهم بعيداً عن مؤامرات الجيش المختلط ومقاومتهم لكل جديد، وعينه محمد علي قائداً للجيش. كان جيش محمد علي لا يتقن تنظيمات الخطوط والمربعات وغيرها مما كان يستخدمه نابوليون في معاركه، وكانوا يخوضون المعارك بفرق أو وجاقات كل فرقه منها بقيادة قائد، ويهجمون من غير تنظيم محدد.
لقد كانت الحملة على الدولة السعودية الأولى مفتاح كل محاولات التطوير التي جعلت محمد علي يتفوق في مرحلة من المراحل على الدولة العثمانية، وكاد يدخل إستانبول لولا التدخل الغربي.
إذن، لقد كان فيسيير مفتاح الدخول إلى الرس وعنيزة وشقراء وصولا إلى أحياء الدرعية التي خربها وشرد سكانها وقتل أعيانها، ثم غادر. ولو استعرضنا ما كانت تحمله الحملة عدا الأسلحة والذخائر من خمور وملاه وآلات موسيقية لعرفنا طبيعة الجيش الذي كان يخوض المعركة عسكريا وطبيا ورسما للخطط.
وسيجد قارئ ترجمتنا سيل الكتب التي أوردها جبريل غيمار دليلا على الحضور الفرنسي والأوروبي في مصر محمد علي منذ الحملة على الدولة السعودية الأولى؛ مما يعزز قولنا: إنها حملة الأوروبيين على الدولة، ولكنهم كانوا يحتاجون واجهة يتفادون بها الجانب الديني، الذي اخترقه محمد علي قبل الحملة، وفي أثنائها وبعدها فرديا عندما سمح لكثير من الأوروبيين بدخول الأرض المقدسة أفرادا، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك، وكان في نهاية الأمر واجهة للقضاء على دولة امتد نفوذها ليهدد الوجود الغربي في المنطقة كلها (الجزيرة العربية، واليمن والخليج العربي والشام والعراق).
وسيجد قارئ هذا التقرير مصداق مقولتنا على لسان أوروبي عالم.
يتابع غيمار قائلا:
وبعد ست سنوات، قام محمد علي، الحريص على سياسة الاحتكار، اعتمادا على نصيحة مستشاره الأبدي دروفيتي، بإلغاء حرية تجارة الصمغ ليحتكر لحسابه الشخصي مصدر الموارد هذا. لم يفقد فيسيير ثقة دائينيه فحسب، بل (استدان، كما يذكر تيبو Thibaut، من أصدقائه رأس ماله التشغيلي الأول)، وحقق رأسمال يعد جيدا في مقياس العصر، قدره 25000 تاليري، ويعد ذلك، بلا شك، مبلغا نقديا محترما.
ولم يقف فيسيير عند هذا الحد، وقد تمكن في نفسه حب المضاربة التجارية. لقد حصل من الباشا الكبير، الذي يبدو أن فيسيير استعاد بعض رضاه، تعويضا له عن نقص الأرباح التي سببها احتكار الباشا تجارة الصمغ، بالسماح لفيسيير بنقل البن الحبشي، وبيعه في السوق المصري. وقد قام لهذا الغرض برحلتين إلى الحبشة عبر النيل الأزرق. وعندما كان يستعد للرحلة الثانية ألحق بخدمته «أنطوان» بران- رولليه
(1807- 1858م) Antoine Brun-Rollet
(حاشية 1، ص 157: النيل الأبيض والسودان، باريس، 1855م، ص 30-31
=
Le Nil Blanc el le Soudan, Paris, 1855, in-8, p. 30-31).
ورولليه راهب شاب من منطقة سافوا ( يقال في النسبة إليها سافويار savoyard).
«وهي منطقة بين إيطاليا وفرنسا» لقد أبعد رولليه الشقة في أسفاره، وكان على وشك الإفلاس عندما وصل إلى الإسكندرية، ولم يتح له إلا أن يعمل طباخا. وبعد عشرين عاما وجدناه فجأة يعقد شراكة مع الطبيب البيطري «فيرديناند» لافارج؟ (1814- 1870م) Laffargue
(حاشية2، ص 157: فيردينان لافارج (1814- 1870م)
بيطري تخرج في مدرسة ألفور Alfort، (مؤسسة للتعليم العالي تقع في منطقة Maisons-Alfort).
وظّفه محمد علي، واستقر في الزقازيق، ثم انتقل إلى السودان ليعمل تاجرا، وتوفي في مدينة بربر «وهي مدينة سودانية تتبع لولاية نهر النيل بشمال السودان» تاركا ثروة كبيرة. «معلومة من أسرته».
وأصبح رولليه واحدا من أكبر تجار العاج في السودان، وأسس عددا من الزرائب (الحظائر) على طريق جندكرو Gondokor
(مدينة في جنوب السودان) المشهورة بأنها مصب لبحر الغزال، وتوفي في عام 1858م وهو في أشد العمر، وكان عضوا في الجمعية الجغرافية في باريس، وفي أكاديمية منطقة سافوا Savoie وقنصل سردينيا في الخرطوم. وقد خلف في هذا المنصب مواطنه «ألكسندر فودي (1815- 1854م) Alexandre Vaudey
الذي اغتيل على ضفة النيل الأعلى (قرب مدينة جندكرو في السودان. وصل إلى مصر عام 1839م، وتولى تدريس أبناء محمد علي، له رحلات استكشافية في مصر العليا والسودان. وسرعان ما تحول إلى مهرب للصمغ والعاج. وشغل من عام 1843 إلى عام 1849م منصب السكرتير العام للمجلس الصحي في مصر).
لقد نال بران- رولليه حظه من الشهرة؛ فبالغ بعضهم في مديحه، وأسرف آخرون في النيل منه. وإنني، بلا ميل لأولئك أو هؤلاء، أذكر هنا أن فودي Vaudey ترك سبطين سلكا طريقه؛ الأخوان: جول Jules
(1838- 1873م) وأمبرواز بونسيه (1835- 1868م) Ambroise Poncet وقد نال كتابهما عن المناطق الواقعة غرب النيل الأبيض الإشادة عند صدوره.
(النهر الأبيض: تعاليق جغرافية وأنثروبولوجية وحملات صيد الفيل في بلاد الدنكا وفي الخور، باريس، ارتروس برنار، 1867م=
Le Fleuve Blanc: notes géographiques et ethnologiques et les chasses à l»éléphant dans le pays des Dinka et des Djour, Paris, Arthus Bertrand, 1864).
(وقد لحقا بجدهما إلى مصر).
(وبران رولليه فرنسي، توفي في الخرطوم، ومستكشف جاب شرق إفريقيا. ركب السفينة وهو يبلغ الثالثة والعشرين من العمر إلى مصر في عام 1831م. كان مغامرا استطاع الوصول إلى الحبشة في عام 1832م. استقر في الخرطوم ومارس التجارة باسم «التاجر يعقوب» مع السكان على ضفة النيل فأنسوا به، وكان يراقب ثقافتهم. أمره محمد علي بالانضمام إلى فريق الباحثين عن منابع النيل، وشغل منصب قنصل سردينيا في السودان الشرقي في الخرطوم. كان له مراسلات مع جومار نشرت بعنوان: «رسالة من السيد بران رولليه إلى السيد جومار وصلت مع السيد لينان- بيه: كروروسكو Linant-Bey : Korosko، بتاريخ 20 نوفمبر 1852م» نشر في نشرة الجمعية الجغرافية، باريس، المجلد 5، (سلسلة 4)، 1853م، ص95- 100=
Lettre de M. Brun-Rollet à M. Jomard, arrivée par l’entremise de Linant-Bey : Korosko, 20 novembre 1852 », Bulletin de la Société de géographie, Paris, vol. 5 (4esérie), 1853, p. 95-100).
[158] أما فيسيير فقد لقيت تجارته في البن رواجا كما حصل في تجارة الصمغ و(خشب البخور). فقد أرسل إلى القاهرة في رحلته الأولى، كما ذكر هولروايد Holroyd،
(الحاشية 1، ص ^158: نقل ذلك عن جون بورنغ John Bowring، في كتابه: تقرير عن مصر وكاندية، «مدينة في اليونان»، لندن، 1840م=
Cité par J. Bowring, Report on Egypt and Candia, London, 1840).
أن فيسيير أرسل في الرحلة الأولى 400 جمل محملة بالبضائع الثمينة، وحقق حسب ما يذكر ليون دو جوانيس (1803- 1868م) Léon de Joannis ربحا قدره 100 ألف فرنك، ولكي يفلت من الرسوم المرتفعة للعبور التي يحصلها الموظفون المصريون في النوبة، تجنب المرور عبر المدن، وسار ببضاعته عبر الصحراء. وجهز في عام 1831م قافلة أخرى انطلقت من إثيوبيا. إن هذه المعلومة التي يوردها بران-رولليه Brun-Rollet، يمكن التأكد من صحتها عبر (مصدر آخر؛ إنها سردية جوانيس Joannis
الموظف المساعد الذي أسهم في نقل مسلة الأقصر التي نراها منذئذ في باريس، في ساحة الكونكورد. إن النشرة المعنونة: حملة باهرة على الأقصر، التي كتبها هذا الضابط هي اليوم ضائعة. ونحن نعلم أن مَنْ أمر بمهمة نقل المسلة إلى فرنسا هو الكابتن «ريمون جان باتيست دو فيرنيناك سان-مور (1794- 1873م)
«Raymond Jean-Baptiste» de Verninac-Saint-Maur
الذي أصبح بعد ذلك أميرالا، ثم وزيرا للبحرية، وحاكما لجزيرة الرونيون Réunion ثم لمناطق الهند الفرنسية، وقد ترك هو أيضا سردية عنوانها؛ رحلة الأقصر في مصر، 1935م. وهناك ضابط- جراح آخر؛ هو جان بيير أنجيلان J. P. Angelin كتب رحلة عنوانها: بعثة الأقصر، «أو قصة الحملة على طيبة لجلب المسلة الغربية. نشرت أيضا في عام 1833م=
J. P. Angelin,
Expédition du Louxor, ou Relation de la campagne faite dans la Thébaïde pour en rapporter l»obélisque occidental de Thèbes,
(1833).
لقد كان «إيزيدور جوستان بارون دو» تايلور (1789- 1840م) Isidore Justin Séverin baron de Taylor، يدير بين عامي (1829 و1830م) جلستي المفاوضات للتنازل عن المسلة. إن رحلة ضباط البحرية هؤلاء هي موضوع الساعة اليوم. فالسيد «جورج» ناجل (1899- 1956م)
M. «Georges» Nagel
عالم الآثار (المعاصر) الذي عثر في طيبة، وفي بئر من عصر سيتي [الأول 1290- 1279 ق. م.] على مخطوطة أعرض عنها ضابط رابع من ضباط الأقصر، الملازم شارل جوريس (1808- 1870م)
Charles Jaurès
الذي أصبح بعد ذلك يحمل رتبة أميرال. (لقد رست سفينته في الأقصر مكلفا بحمل المسلة التي أهداها باشا مصر؛ محمد علي، لملك فرنسا لوي فيليب Louis-Philippe
لقد تميز خلال هذه المهمة عندما قام بعملية إنقاذ بعد غرق السفينة قرب القاهرة). ولنا لقاء.