د. محمد عبدالله الخازم
حظي مسلسل «شارع الأعشى» بزخم جيد في المشهد الإعلامي المحلي مدعوماً بتسويق وترويج ضخم. ولعل أهم محفزات الانتشار هي كونه يحكي بعض حكاياتنا، التي يحكمها الحنين (النوستالجيا) ويعززها معرفتنا لكثير من تفاصيلها. هذا الأمر رغم جاذبتيه قاد إلى مأزق النقد الموضوعي للعمل، حيث سادت العاطفة في التعامل معه من قبل الجمهور والنقاد. يمكن ملاحظة ذلك عند الحديث عن المسلسل في استحضار الذكريات والجدال حول اللهجة، الملابس، نوع السيارة، الأكل، الحنبل وغيرها. لذلك وجدنا العديد من (النقاد) يكتبون من داخل الحكاية وليس خارجها، يكتبون احتفاءً لا تحليلاً، تحفيزاً لا تقريضاً، إنحيازاً لا حياداً. بشكل أكثر تبسيطاً؛ عندما نحكي حكاياتنا ليس مطلوباً منا التفاصيل الفكرية والفلسفية، أو التفسير لما يحدث وكيف يحدث، لأننا نتطرق لأمور نعرفها وندرك تفاصيلها، لكن لو جاءنا شخص من خارج مجتمعنا الصغير أو من جيل آخر فقد يشعر بأننا نتحدث عن أمور لا يفهمها، أمور غير واضحة أبعادها وخلفياتها. هذا أحد أهم مفاتيح الخروج من المحلية والذاتية، أن يستوعب العمل ممن هم خارج بيئة الحكاية، وفق حبكة مكتملة العناصر يمكن استيعابها، دون شروحات إضافية يقدمها المؤلف أو المخرج أو المشاهد الأكثر خبرة.
إضافة إلى التقنيات الإخراجية الفنية، تميزت حبكة المسلسل بأحداث، واحد تلو الآخر، وفرت التوتر المطلوب والجاذب للمتابع. هذه إيجابية تحسب للمسلسل - وربما- هي الإضافة التي قدمها الخبراء الأتراك للمسلسل، حيث الهدف الرئيس هو الإبقاء على المشاهد في حالة قلق وانتظار لما سيحدث. هذا أمر له إيجابياته الدرامية والترويجية التي أبقت على دوائر النقاش والجدال مستمرة حول المسلسل. التصاعد الدرامي للوصول إلى قمة الحبكة وتوترها كان سريعاً، غير مرهق للمشاهد العادي، رغم أننا في كل مرة نجد نكوصاً وقفلة للحكايات غير مريحة بشكل تام أو غير متوقعة، في مسلسل اجتماعي واقعي وليس فانتازي. على سبيل المثال، توترت الحكاية وتصاعدت وفجأة كانت القفلة بقتل أكثر من شخصية في النهاية. العديد من المشاهد/ التفسيرات التي بدت طارئة وكانت تستحضر لمرة واحدة لمجرد إقفال حدث أو حل عقدة درامية. فجأة صار هناك مقهى، فقط لحل عقدة برزت في السياق. فجأة كان هناك مشهد حلاق لحل عقدة تفسر رأي الأب. استحضرت شخصية بدت كأنها غنية لتبرير الغنى غير المنطقي لقادمة من المجهول سكنت الحي فأصبح لديها محلات وبيت وسيارة. استخدم مصطلح طارئة لأنها لم تكرر أو توظف بشكل أفضل. فمثلاً، المقهى لم يكن حاضراً في نقاشات عديدة على مدى الحلقات ليمنح بعداً فكرياً عبر حواراته للنص، بدلاً من مجرد استحضاره مرة واحد لحل عقدة طرأت في الحبكة؟ ربما النص لم يكن ثرياً فكرياً بما يكفي لخلق حالة درامية أفضل أو ربما تكاليف الإنتاج أو لأسباب أخرى، لا نشغل بالنا بها في هذا المقام، المتعلق بالحبكة الدرامية ومكوناتها وعمقها الفكري وفلسفي والتأسيسي.
للإيضاح بشكل أكبر- ربما مدرسي- حول آلية التحليل والنقد، في العمل الدرامي كما في الرواية هناك مسارات رأسية وأخرى أفقية في تطور العمل وهناك البيئة (الأيكوسيستم) الحاضن لها. على سبيل المثال، يمكن تتبع تطور الشخصيات رأسياً، كيف بدأت/ كيف تطورت أفكارها/ كيف حدثت تحولاتها وتناقضاتها/ كيف صنعت أزماتها/ ... إلخ. على سبيل المثال، كيف تقدم شخصية على أنها طيبة ومطيعة ثم فجأة ودون أية مقدمات تتحول إلى شخصية شرسة ومليئة بالشر؟ يفترض أن توضح أو تمنحني مفاتيح نبرر ذلك ذلك التحول. كما أنه غير مناسب تقديم شخصية بطل طيلة 30 حلقة بذات السمات والجمود في الملامح والمظهر والصمت والطاعة، دون انفعالات وتقلبات تتناسب مع الأحداث، ودون حوارات ثرية معه في العمل أو المقهى أو الديوانية؟ المسلسل لم يكن متوازناً في هذا الأمر، بحيث يمنح كل شخصية حقها في النمو والتحول بشكل مقنع أو طبيعي.
عندما نتطرق للمسار الأفقي، فإننا نشير إلى العلاقات بين شخوص العمل وحكاياته وأحداثه. المسلسل بدا مستعجلاً وسطحياً في وضوح العلاقات بين شخصياته وأحداثه، وكان كل حكاية تبدأ وتنتهي منفصلة بذاتها. وهنا قد يجادل البعض بأن التلميح يكفي، على سبيل المثال مجرد استقبال الابن العائد ببدلة يشير إلى وجود ابن مبتعث للعائلة. مثلاً، كان يمكن إيجاد دور له في الحوار كشاب تنويري يناقش الأفكار العائلية والأخوات. أو أن وجود الحلاق في مشهد أو مشهدين لحلاق من دولة عربية لنشير إلى التنوع في الحي وكان يمكن إشراكه في حوارات بالمقهى... إلخ.. هذا تبسيط كبير في رسم العلاقات بين الشخصيات وبين الحكايات... إلخ. بدون التوسع في التفاصيل، الأمر تكرر بشكل أضعف التناغم الأفقي المثري للحبكة فكرياً وفلسفياً. قد تكون هناك وجهة نظر تلتمس العذر فترى ذلك كمؤشر على طبيعة الحي أ و المرحلة الانتقالية التي عاشتها الرياض في تلك المرحلة حين وفدها السكان من مختلف المناطق دون ترابط وجودي بينهم.
العنصر الثالث يتعلق ببيئة العمل. كانت البيئة محدودة وفقيرة في تنوعها وتمثيلها؛ شارع ترابي وبيوت محددة. تم استحضار المقهى في مشهد أو مشهدين فقط دون حوارات ثرية متكررة داخله، لم يوجد أطفال في الشارع، لم يوجد حوارات في مكان العمل، لم نر مزارع الخرج ولا بحر الشرقية ولا البيئة التي قدم منها الغرباء. لا نعرف بيئة عمل البطل والد البنات ولا المؤثرات في شخصيته وأفكاره خارج حدود منزله. لم توجد مقارنات مع أحياء أخرى ولا مبررات تسمية الشارع بالأعشى. طبعاً، ليس المطلوب خلق بيئة مثالية، لكن بيئة/ فضاء مدينة أو حي بكافة عناصره وأبعاده بما يثري الحكايات وتفاصيلها.
أخيراً، ولتوضيح الطرح أعلاه عبر المقارنات، أقارن مسلسل «شارع الأعشى» بمسلسل «خيوط المعازيب» الذي أنتج العام الماضي. خيوط المعازيب تحلى بجودة عالية فنياً وفكرياً ودرامياً، عشنا حكاياته الثرية في مكان العمل والحي والمقهى والمزرعة والمسكن والسوق وفصول الدراسة وغيرها من المكونات التي منحتنا وجبة درامية متنوعة وثرية عبر فهم أعمق للعمل وتطور شخصياته وأحداثه رأسياً وعلاقاتها أفقياً. شارع الأعشى كان محصوراً في (ثيمة) واحدة (بسيطة) درامياً داخل مساحة محدودة مكانياً وفكرياً، وقد كان بالإمكان أفضل مما كان بكثير. مع تقديرنا لحجم المشاهدات والإعجاب بحكاياته البسيطة وإكسسواراته ولهجته، و(ذباته) التي تحولت إلى (ترندات) شعبية في فضاء التواصل الاجتماعي...
أسئلة إضافية
يسأل البعض، هل العمل الدرامي والروائي يمثّل التاريخ أم لا؟ بعيداً عن روايات (الفانتازيا) العمل الروائي/ الدرامي - إن لم تكن توثيقياً- فإنه يشكِّل رافداً للعمل التاريخي حين يحكي الخلفيات الاجتماعية والفكرية للناس والبيئات المهمشة في حقب معينه، دون الالتزام بالتوثيق أو التواريخ الزمنية كما يفعل العمل التاريخي. التاريخ يكتبه المنتصر، ويركّز على آليات الصراع السياسي والعسكري لكنه لا يعني بحكايات وقصص الناس والخلفيات الاجتماعية والفكرية التي تشكّل وعيهم. ذلك ما تفعله الرواية والدراماً، مما يصعب فصلهما عن سياقاتهما التاريخية لمجرد أنها لم تقدم عملاً موثقاً أو مبرمجاً من الناحية الزمنية. شارع الأعشى، مثلاً، تطرق إلى حكايات أناس تجمعوا من مشارب مختلفة لتكوين مجتمع بحكايات متنوعة. كتب التاريخ لن تكتب هذه التفاصيل الاجتماعية، ومن هنا يكون العمل الروائي مسانداً للعمل التاريخي أو الوثائقي. تبقى مسألة الواقعية والاقتراب من وصف المجتمع الحقيقي، مسألة نقاش.
السؤال الثاني، حول علاقة المسلسل بالرواية الأصلية المقتبس منها وهي رواية «غراميات شارع الأعشى» وحجم الاقتباس. هل مهمة الدراماً المقتبسة من عمل روائي الالتزام الحرفي بما ورد في الرواية أم صنع نصاً أخر مواز لنص الرواية الأصلية؟ كم حجم التعديل والتغيير المقبول في النص الدرامي عن النص الروائي المكتوب؟
السؤال الأخير، ما علاقة مؤلف العمل المكتوب (الرواية الأصلية) بالعمل الدرامي؟ مهمة المؤلف تنتهي بنشره عمله وتبقى العلاقة قانونية متعلقة بالحقوق الفكرية سواء للناشر أو المؤلف، حسب الأنظمة. لكننا لاحظنا تدخل المؤلفة في التفاصيل الإنتاجية والدرامية وفق تصريحاتها، وكأنها منتج العمل. أخشى أننا نؤسس لثقافة قيام المؤلفين بتسويق والإشراف على أعمالهم لتتحول إلى منتجات درامية، وهو ذات المسار الذي اتبعته الأغنية السعودية بنشرها للأعمال التي يملك مؤلفوها قدرات تسويقية ومادية أكبر؟
ختاماً، النقد يحتمل اختلاف التأويلات رغم إيضاحنا مرتكزاته. التقدير لمختلف وجهات النظر ولصنَّاع الأعمال الدرامية السعودية.