في لقاء مع إحدى الشخصيات البارزة في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر في الهند، نستضيف سماحة الشيخ أبو بكر أحمد، مفتي الديار الهندية، وأحد أعلام العلماء الذين جمعوا بين الأصالة والتجديد. يتناول الحوار أبرز محطات الشيخ العلمية والدعوية، ويعرض رؤيته حول تجديد الفكر الإسلامي، وتحديات العمل الدعوي في الهند، إضافة إلى دور الفتوى، وقضايا المرأة، والإعلام الرقمي في خدمة الدعوة، وغيرها من المسائل المعاصرة التي تتطلب رؤية متزنة وواعية.
هذا اللقاء لا يقتصر على عرض تجربة فردية، بل يقدم نموذجًا إسلاميًا متوازنًا يجمع بين الاعتزاز بالهوية والانفتاح على الآخر، ويؤكد أن الإسلام الوسطي يمكن أن يكون جسرًا للتواصل والسلام في عالم يموج بالصراعات الفكرية. وهاكم نصّ الحوار:
* بدايةً نود أن نتعرف على محطات مسيرتكم العلمية والدعوية، وكيف كانت البدايات الأولى في طلب العلم الشرعي؟ ومن هم العلماء الأبرز الذين أثّروا في تشكيل وعيكم العلمي والروحي، وكيف انعكس ذلك على منهجيتكم في الفتوى والدعوة؟
- بدأتُ تعلمي للمبادئ الدينية الأولى في مدرسة «أوثوبلي» لتحفيظ القرآن الكريم، التابعة للمدرسة الابتدائية في كانتابرم. وكان أول أستاذ لي الشيخ عبد الله مُسليار، المعروف بلقب «أبّن ثودك»، وقد كان قارئًا بارعًا ومتميزًا في تلاوة القرآن الكريم. لذلك، كانت المدرسة تركّز بشكل خاص على تعليم القرآن الكريم وتحفيظه. بعد أن أنهيتُ دراستي في مدرستي أوثوبلي، التحقتُ عام 1949 بالحلقة العلمية في المسجد تحت إشراف الشيخ عبد الحميد مُسليار، وكان حينها معلمًا في جامع كانتابرم.
ثم واصلت الدراسة تحت إشراف الأستاذ بوكّور كتي مُسليار، وكان من شروط حلقته حفظ قصيدتي «تحفة» و»ألفية»، وقراءة جزء من القرآن الكريم بعد صلاة الفجر، والمشاركة في جميع الصلوات الجماعية. وكان الشيخ واسع الاطلاع على كتب الحديث، كـ»صحيح البخاري» و»إحياء علوم الدين».
كما درست تحت إشراف عدد من العلماء في حلقات علمية أُقيمت في مساجد الجمعة في مناطق تَانّور، كوليكال، تلاكّدتّور، وتشاليام، ومن أبرزهم: الشيخ ك. ك. أبو بكر حضرة، والشيخ إمبيتشّالي مُسليار، والشيخ أ. ك. زين الدين كتي مُسليار. ثم التحقتُ بمدرسة «باقيات الصالحات» في مدينة فيلور، والتي كانت من أبرز معاقل التعليم الديني في جنوب الهند آنذاك، ونلت منها شهادة «الباقوي». وكان الشيخ حسن حضرة هو الأستاذ الرئيس في تلك المدرسة. وبعد التخرج منها، بدأتُ التدريس، وكان أول دروسي في «صحيح البخاري»، ومنذ ذلك الحين حتى الآن مضت ستون عامًا على مسيرتي في التعليم.
* ما الدور الذي تلعبه المؤسسات الإسلامية الهندية في الحفاظ على العقيدة وتجديد الخطاب الديني لمواجهة التطرف والانحراف الفكري؟
- تلعب المؤسسات الإسلامية في الهند دورًا محوريًا في الحفاظ على العقيدة الإسلامية الصافية والمنهج الوسطي المعتدل الذي جاء به الإسلام. فهذه المؤسسات تقوم بواجبها الشرعي في تعليم العلوم الإسلامية، من قرآن وحديث وفقه وعقيدة، على منهج أهل السنة والجماعة، مع التأكيد على مقاصد الشريعة السمحة، وتوجيه المسلمين إلى الفهم الصحيح للدين.
فقد بدأنا منذ سنوات طويلة بإنشاء مدارس إسلامية للصغار تحت إشراف جمعية علماء أهل السنة، حيث يتعلّم فيها الطلبة منذ الصغر العلوم الإسلامية والعقيدة الصحيحة، ما جعل الانحرافات الفكرية نادرة في أوساطنا. كما أُنشئت كليات إسلامية ودروس علمية تُدار بالمئات تحت مظلة الجمعية وتحت إشرافنا المباشر، وتتمسك جميعها برسالتها في صيانة العقيدة. ومن أبرز هذه المؤسسات «جامعة مركز الثقافة السنية»، التي كان لها ولا يزال دور فعّال في مواجهة الانحرافات الفكرية والتطرف.
ومن جهة تجديد الخطاب الديني، فإننا نؤمن أن التجديد لا يعني تغيير الثوابت، وإنما يعني إعادة تقديم تعاليم الإسلام بما يتناسب مع حاجات العصر، وبما يُسهم في معالجة القضايا الفكرية والاجتماعية التي تواجه المسلمين، وبخاصة الشباب. ولهذا تحرص مؤسساتنا على تربية طلاب العلم على الاعتدال والوسطية، وتحذيرهم من الغلو والتطرف، سواء كان دينياً أو فكرياً.
وندعو دومًا إلى الحوار البنّاء، ونشجع على العيش المشترك في إطار القيم المشتركة التي تجمع بين مكونات المجتمع الهندي، من دون تفريط في الهوية الإسلامية، ولا إفراط في التعصب أو الانغلاق. فالإسلام جاء رحمة للعالمين، ومؤسساتنا تسعى إلى أن تكون هذه الرحمة واقعًا ملموسًا في حياة الناس.
* ما أبرز جهودكم الشخصية أو المؤسسية لتعزيز الحوار الديني في الهند، وكيف تُجابهون خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل؟
- من أبرز جهودنا الشخصية والمؤسسية لتعزيز الحوار الديني في الهند، أننا نحرص دائماً على بناء جسور التواصل مع مختلف الطوائف والمجتمعات الدينية، من خلال عقد الندوات المشتركة، والمشاركة في المؤتمرات التي تعزز قيم التعايش والتسامح. نحن نؤمن بأن الهند، بتعددها الثقافي والديني، بحاجة إلى خطاب عقلاني ومسؤول يقر بالاختلاف ويعززه في إطار من الاحترام المتبادل.
أما في ما يخص خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل، فنحن نعمل على التصدي له من خلال نشر المحتوى الإيجابي، والتأكيد المستمر على القيم الإسلامية التي تدعو إلى الرحمة والسلام. كما نتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والمنصات الرقمية لرصد ومنع تداول الرسائل التي تحرض على العنف أو تسيء إلى الأديان. نؤمن أن الرد يكون عبر الحكمة والموعظة الحسنة، لا عبر الانجرار إلى المهاترات، ونشجع شبابنا على استخدام وسائل التواصل كوسيلة لنشر الوعي والمحبة، لا الكراهية والانقسام.
بالنسبة لي فقد راودتني فكرة تأسيس مؤسسة إسلامية أثناء دراستي في كلية الباقيات الصالحات. وقد بقيت هذه الفكرة حاضرة في ذهني لسنوات حتى تحققت عبر إنشاء «جامعة المركز». وكانت البداية من خلال دار للأيتام ضمّت خمسة وعشرين يتيمًا، ثم تطورت المؤسسة بشكل ملحوظ حتى توسّعت بكلياتها وفروعها إلى معظم الولايات الهندية. واعتمدت في هذه الجهود على جمعية أهل السنة والجماعة، التي تنشط في شتى المجالات الاجتماعية والثقافية في كيرلا وسائر الهند، إلى جانب نشاطاتي في التأليف والوعظ والتدريس.
* هل تُشكل الخلافات الطائفية بين المذاهب الإسلامية في الهند تهديداً للوحدة الداخلية؟ وما الجهود المبذولة للمّ الشمل وتعزيز الوحدة؟
- الخلافات بين المذاهب الإسلامية لا تشكّل تهديدًا لوحدة المسلمين في الهند، إذ نعيش في ظل نظام ديمقراطي يحتضن التنوّع الديني والمذهبي. ولا يمكن اعتبار الخلافات المذهبية صراعًا أو خصومة.
جهودنا في لمّ الشمل تنطلق من مبدأ أن الخلاف لا يفسد للود قضية، وأن وحدة الصف الإسلامي أولى من الانتصار لرأي أو اجتهاد.. ونعمل على تأصيل ثقافة الاحترام المتبادل، وتقديم القضايا المشتركة على الخلافات الفرعية. كما نشجع على الخطاب المعتدل في المساجد والمنابر، ونرفض أي خطاب يُثير الفرقة أو يقدح في مذهب بعينه.
* برأيكم، كيف يمكن تحديث المناهج التعليمية الإسلامية لمواكبة احتياجات الشباب المسلم المعاصر مع الحفاظ على الهوية الدينية؟
- في رأيي، تحديث المناهج التعليمية الإسلامية لا يعني بالضرورة التخلي عن الثوابت، بل هو سعي لتقديم هذه الثوابت بلغة معاصرة، وبأسلوب يلائم عقول وقلوب الشباب اليوم. إن من أهم ما يجب أن نركز عليه هو ترسيخ المبادئ الإسلامية الكبرى مثل الرحمة، والعدالة، والتوحيد، والصدق، وفي الوقت ذاته فتح آفاق الفهم المعمق للنصوص الشرعية بعيدًا عن الجمود أو التحجر.
الشباب اليوم يواجهون تحديات فكرية وأخلاقية كبيرة في عالم متسارع ومتغير، ولذلك ينبغي أن تتضمن المناهج محاور عن قضايا العصر مثل الهوية، والتعددية، والعلاقة مع الآخر، وكيفية التفاعل مع الوسائط الرقمية، بل وحتى قضايا البيئة والتقنية، ولكن من خلال رؤية إسلامية متوازنة. كذلك يجب أن نمنح الطلاب مساحة للتفكير النقدي، والحوار، وممارسة الاجتهاد في فهم الدين في ضوء الواقع، بإشراف العلماء والمربين. فنحن لا نغير جوهر الدين، بل نغير الطريقة التي نوصله بها. والغاية في النهاية أن يبقى الشاب المسلم مرتبطًا بدينه، معتزًا بهويته، ومشاركًا بإيجابية في مجتمعه وعالمه.
عملنا على تحديث المناهج الدراسية لتواكب متطلبات العصر الحديث، فأنشأنا هيئة خاصة تعكف على إعداد المناهج وفقًا لاحتياجات الناس والتغيرات المتسارعة في المجتمع، مع التمسك بالثوابت الإسلامية. لدينا «هيئة التعليم السني» المختصة بإعداد المناهج في المدارس، و»جامعة الهند» التي تشرف على المناهج في الكليات والجامعات. ويتبع أكثر من 300 مؤسسة هندية منهج هذه الهيئة، حيث تُعد المناهج بناءً على دراسة علمية ومشاورات موسعة مع كبار العلماء.
* ما دور العلماء والمفتين في عصرنا الحالي لمواكبة المستجدات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر على المجتمعات الإسلامية؟
- دور العلماء والمفتين في هذا العصر بالغ الأهمية، بل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فمع تسارع التغيرات الاجتماعية والسياسية، وتداخل الثقافات، وتحديات العولمة، أصبح من الضروري أن يكون العلماء على وعي تام بهذه التحولات، وأن يُقدّموا فتاوى واجتهادات تراعي الواقع وتحافظ على ثوابت الشريعة في آنٍ واحد.
نحن لا نعيش في فراغ، بل في مجتمعات تتغير فيها القوانين والأعراف والسلوكيات، ولذلك لا بد للعلماء أن يكونوا على اطلاع بالشؤون المعاصرة، وأن يكون خطابهم واقعيًا، مؤصلاً بالكتاب والسنة، لكن بلغة يفهمها الناس، وبأسلوب يعالج قضاياهم اليومية.
كما أن على المفتين مسؤولية توجيه الناس بما يعزز من تماسكهم الديني والأخلاقي، ويحميهم من الذوبان في التيارات التي قد تهدد هويتهم الإسلامية. ولا يعني ذلك الانغلاق، بل المشاركة الفاعلة، والانفتاح الواعي، والتفاعل الإيجابي الذي يحفظ المبدأ ويواكب العصر.
نحن في الهند، وتحت مظلة جمعية علماء أهل السنة وجامعة المركز، نعتمد على مبدأ الشورى بين العلماء في إصدار الفتاوى ومعالجة القضايا. وأؤكد دائمًا أن التصدر للفتوى لا ينبغي إلا لمن كان مؤهّلًا علميًا ومعرفيًا، مطّلعًا على مستجدات العصر.
* كيف ترون العلاقات الدينية بين الهند والمملكة العربية السعودية، وهل هناك مجال لتكثيف التعاون في المجالات الدعوية والتعليمية ؟
- العلاقات الدينية بين الهند والمملكة العربية السعودية علاقات عريقة وراسخة، تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون المثمر في خدمة الإسلام والمسلمين. فالمملكة بحكم مكانتها الروحية واحتضانها للحرمين الشريفين، تحظى بتقدير بالغ لدى المسلمين في الهند، الذين يكنّون لها كل محبة وتقدير، ويتجهون إليها في عباداتهم وقلوبهم.
ونحن نرى أن هناك مجالاً واسعاً لتعزيز التعاون في المجالات الدعوية والتعليمية، من خلال تبادل الخبرات، وتنسيق الجهود في نشر الوسطية والاعتدال، ودعم المؤسسات التعليمية والمراكز الإسلامية، سواء في الهند أو في غيرها من البلدان. كما يمكن تعزيز برامج تدريب الدعاة، وترجمة الكتب الإسلامية إلى اللغات الهندية، وتطوير المناهج الشرعية بما يخدم مقاصد الشريعة ويعزز الوعي الديني الصحيح.
* كيف تُقيّمون المبادرات الدينية التي تقودها المملكة العربية السعودية، مثل «مؤتمر مكة للوحدة الإسلامية»، وما تأثيرها على العالم الإسلامي خاصة في ظل التعاون الدعوي مع الهند؟
- نُثمن عاليًا المبادرات الدينية التي تقودها المملكة العربية السعودية، وعلى رأسها «مؤتمر مكة للوحدة الإسلامية» لما لها من دور كبير في تعزيز الأخوة الإسلامية ولمّ الشمل بين مختلف المذاهب والتيارات. إن المملكة بما لها من مكانة روحية وريادة دينية، تمثل مرجعية للمسلمين حول العالم، ومثل هذه المؤتمرات تفتح آفاقًا للحوار البنّاء، وتُرسّخ مبادئ التعايش والسلم، وتُسهم في مواجهة الفكر المتطرف.
أما فيما يتعلق بالتعاون الدعوي بين المملكة والهند، فإننا نعتبره خطوة إيجابية ومباركة، فالدعم المعنوي والعلمي والدعوي من المملكة يعزز جهود المؤسسات الإسلامية في الهند، ويرسّخ منهج الوسطية والاعتدال الذي يجمع ولا يفرّق. ونأمل أن تتواصل هذه الشراكات المباركة لما فيه خير الأمة الإسلامية جمعاء.
وأرى أن على المملكة مسؤولية كبرى في توحيد صفوف الأمة الإسلامية وحل قضاياها المعاصرة، وأعتقد أن قضية فلسطين لن تُحل إلا في ظل اتحاد الدول الإسلامية بقيادة المملكة. كما أن مؤتمر «مكة للوحدة الإسلامية» وأمثاله يستحق الثناء، لكن لا بد أن تُترجم توصيات هذه المؤتمرات إلى واقع عملي ملموس.
* من منظور إنساني وشرعي كيف يمكن للعالم الإسلامي دعم قضايا المسلمين العالمية، مثل قضية فلسطين والأقلية اليوغورية، ؟
- من منظور إنساني وشرعي، فإن دعم قضايا المسلمين في العالم، مثل قضية فلسطين والأقلية الإيغورية، هو واجب ديني وأخلاقي. الإسلام دين يقوم على مبدأ النصرة والتكافل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.»
فالواجب على العالم الإسلامي أن يتوحد في موقفه، وأن يستخدم الوسائل المشروعة كافة لدعم هذه القضايا، سواء بالدعاء، أو الدعم الإعلامي، أو المساندة السياسية، أو الإغاثة الإنسانية، أو الضغط الدبلوماسي على الدول التي تنتهك حقوق المسلمين. ويجب أن يتم ذلك بروح من الحكمة، والالتزام بالقيم الإسلامية التي تدعو إلى العدل والسلام ورفض الظلم. كما ينبغي للمؤسسات الدينية والعلماء أن يؤدوا دورهم في توعية الأمة، وتربية الأجيال على الاهتمام بقضايا الأمة، وعدم الانعزال عن آلام الآخرين، فالمسلم الحقيقي لا يرضى بالظلم لا على نفسه ولا على غيره، مسلماً كان أو غير مسلم.
* ما مدى ملاءمة الفتوى الشرعية في عصر التكنولوجيا والعولمة، وهل تحتاج إلى آليات جديدة للإصدار والنشر؟
- الفتوى الشرعية كانت وما زالت أداة مهمة لتوجيه المسلمين في حياتهم اليومية، وهي تستمد مشروعيتها من الكتاب والسنة والإجماع والاجتهاد. ومع تطورات العصر الحديث، بما فيه من تقدم تكنولوجي وعولمة ثقافية، أصبحت الحاجة ماسة إلى تطوير آليات إصدار الفتوى ونشرها، حتى تبقى مرتبطة بواقع الناس وتستجيب لتحدياتهم الجديدة.
نحن لا نقول بتغيير أصول الفتوى أو قواعدها الشرعية، ولكن نقول بضرورة تجديد الوسائل والمنهجيات، فاليوم يعيش المسلمون في بيئات متنوعة ويتعرضون لقضايا لم تكن معروفة من قبل، كالمعاملات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والهويات العابرة للحدود.
لذلك، فإن المفتي في هذا العصر يجب أن يكون على دراية بالتطورات المعاصرة، وأن يتعاون مع المتخصصين في مختلف المجالات، كما أن المؤسسات الإفتائية ينبغي أن تستفيد من وسائل التواصل الحديثة لضمان وصول الفتوى الصحيحة إلى الناس بسرعة وسهولة، مع الحفاظ على المصداقية العلمية والمنهجية الشرعية.
* كيف تردون على انتقادات «التقليدية المفرطة» في الفقه الإسلامي تجاه حقوق المرأة، وما رؤيتكم لتطوير دورها في المجتمع الهندي؟
- في رأيي، يمكن الرد على انتقادات «التقليدية المفرطة» في الفقه الإسلامي تجاه حقوق المرأة بتوضيح أن الفقه الإسلامي ليس مجرد تقاليد جامدة، بل هو نظام متطور يأخذ في اعتباره المصلحة العامة للإنسانية. الحقوق التي منحها الإسلام للمرأة هي حقوق طبيعية ومشروعة وفقًا للشرع، وليس من المبالغة القول إن الإسلام سبق كثيرًا من القوانين الحديثة في منح المرأة حقوقًا، مثل الحق في الميراث، التعليم، والعمل، والاختيار في الزواج.
أما فيما يتعلق بتطوير دور المرأة في المجتمع الهندي، يجب أن نتذكر أن الإسلام لم يمنع المرأة من العمل والمشاركة في المجتمع، بل دعا إلى ذلك في إطار من العدالة والمساواة مع الرجل. في المجتمع الهندي، يمكن تحسين وضع المرأة من خلال تعزيز التعليم الإسلامي الذي يوضح حقوقها وفقًا للشريعة، وتشجيعها على التفاعل البناء مع جميع المجالات الحياتية. من المهم التركيز على أن أي تطوير لدور المرأة يجب أن يتماشى مع القيم الإسلامية ويكون في إطار الحفاظ على كرامتها ودورها الطبيعي في المجتمع. وقد أبديت رأيي بخصوص هذا في حوار سابق مع جريدة «الأخبار المصرية» وقلت إن الفقه الإسلامي يقدم حلاً حاسمًا وعادلاً لحقوق المرأة، إذ إن حقوقها محفوظة فيه بأتمّ وجه.
* ما تأثير المنصات الرقمية على الخطاب الديني، وكيف يمكن للعلماء توظيفها لنشر الفهم المعتدل للإسلام؟
- لا شك أن المنصات الرقمية قد أصبحت من أهم الوسائل في عصرنا لنقل المعلومات والتأثير في عقول الناس وقلوبهم، بما في ذلك الخطاب الديني. وقد أدركنا أن لهذه الوسائل تأثيراً مزدوجاً؛ فهي من جهة قد تُستعمل لنشر الأفكار المتطرفة أو المغلوطة، لكنها في الوقت نفسه تُعد فرصة عظيمة لأهل العلم والدعوة لنشر الفهم الصحيح والمعتدل للإسلام، الذي يقوم على الرحمة، والتسامح، والوسطية، كما جاء في القرآن الكريم:
«وكذلك جعلناكم أمة وسطاً».
ومن هنا، فإن على العلماء والمفتين مسؤولية كبيرة في أن يكون لهم حضور قوي على هذه المنصات، من خلال تقديم محتوى علمي رصين، بلغة يفهمها الناس، وبأساليب تواكب العصر، كالمقاطع القصيرة، والبث المباشر، والحوار المفتوح مع الشباب. كما ينبغي أن نُبرز الجوانب المضيئة في الشريعة الإسلامية، ونرد على الشبهات ببيان هادئ ومقنع، بعيداً عن الانفعال أو الخطاب الإقصائي. إن توظيف المنصات الرقمية لنشر الفهم المعتدل للإسلام هو واجب الوقت، وهو من أعظم أبواب الدعوة في هذا العصر، والله المستعان.
* كيف تصفون وضع المسلمين في الهند من حيث الهوية والدين والتعليم؟
- المسلمون في الهند يعيشون في أمان كامل من حيث الهوية والدين والتعليم. هناك العديد من الفرص التعليمية والدعوية التي قد لا تكون متوفرة في بعض الدول الإسلامية. نحن نتمتع بحرية كاملة في تأسيس المؤسسات التعليمية، والمدارس، والمساجد. ومن المهم أن نلاحظ أن ما يُعرض في بعض وسائل الإعلام من تجاوزات، هو أمر نادر الحدوث. وكما يُقال: «في كل خير شيء من الشر»، فإن هذا لا يعني أن الوضع العام سلبي، بل هو استثناء لا يعكس الصورة العامة.
* ما هي رسالتكم لعلماء الأمة الإسلامية في ظل التحديات العالمية المشتركة كالإسلاموفوبيا والتطرف؟
- من المهم إظهار الصورة الحقيقية للإسلام، دين التسامح والتعايش، والمناهض للعنف والتطرف، ويتم ذلك من خلال المحاضرات والدروس العلمية والندوات التوعوية. لكن أعظم وسيلة للدعوة تبقى في القدوة الحسنة، فالمسلم الحقيقي هو من يُجسّد الإسلام في أخلاقه وسلوكه. وقد دخل آلاف الناس في الإسلام على مرّ التاريخ بمجرد رؤيتهم لأخلاق المسلمين الصادقين، الذين جسّدوا قيم الإسلام عمليًا.
* كلمة توجيهية من فضيلتكم لعموم المسلمين، خاصة الدعاة والعلماء، في ظل التحديات المعاصرة.
- أول ما يجب علينا هو التمسّك بالعقيدة الصحيحة والعمل الصالح لنكون قدوة حسنة. ثم التوعية الكاملة بما يحيط بنا من ظروف ومستجدات، والرجوع إلى العلماء في الأمور الدينية، مع الالتزام بما عليه السلف الصالح، وعدم تأييد التطرف والإرهاب بأي شكل من الأشكال.
** **
حاوره: الدكتور علاء الدين الهدوي فوتنزي - محاضر في قسم الماجستير والبحوث للغة العربية بكلية السنية العربية كاليكوت ومراسلنا في الهند