تغريد إبراهيم الطاسان
في أعماق الإنسان تكمن رغبة خفية في الانعتاق من سطوة الذاكرة، وتوق دفين إلى لحظة لا يُثقِلها ماضٍ ولا تُكبّلها التجربة.
ثمة لحظة يخبو فيها وهج الذكريات، لا لأنّها فقدت أثرها، بل لأنّ الإنسان يشتاق إلى ما لم يعشه بعد. يراوده شعور عميق بأنّ ماضيه لم يعد كافيًا ليحمله إلى الأمام.
في تلك اللحظة، يبدأ السؤال: هل يمكن أن نمتلك ذاكرة جديدة لا ترتكز على ما كان، بل على ما يمكن أن يكون؟
هذا الميل إلى التحرر ليس نكرانًا للذات، بل هو في جوهره نزوع إلى إعادة تشييدها على أرضية مختلفة، لا تحكمها الندوب ولا تحدّها الانعكاسات القديمة.
غير أن فكرة الذاكرة الخالية من الماضي تثير تساؤلات جوهرية حول إمكانية ذلك من الناحية الوجودية. فالذاكرة ليست مجرد أرشيفٍ زمنيّ للأحداث، بل منظومة متكاملة تشكّل الإدراك وتوجّه القرار.
هي الطاقة التي تمنح المستقبل ملامحه، لكنها قد تنقلب إلى قيد إذا ما امتلأت بما يعوق الحركة ويطمس إشراقات الاحتمال.
في المقابل، تُبنى الهوية الحقيقية على ثبات الأساس، مع إمكانية المرونة في التحول بما يواكب المستجدات دون المساس بأصل الأساسات. فالإنسان لا يولد بهوية مكتملة، بل يصنعها عبر الانخراط في الحياة وتلقّي الصدمات وتجاوز التحديات.
كل محاولة لتطوير الهوية القديمة هي، في عمقها، فعل ولادة ثانية، يختار فيه الإنسان أن يبدأ من جديد، لا فرارًا من ذاته، بل تطلعًا إلى ذاتٍ أوسع.
ليست الهوية قالبًا جاهزًا يُفرَض على الإنسان، بل هي عملٌ مستمر، مشروع مفتوح على التحوّل. من يقرر إعادة رسم ملامح هويته بإبراز جمال أصلها مع إلباسها حلة الزمان المناسب، هو لا يهدم ذاته، بل يعيد توجيهها. يولد من رماده باختياره، لا بحكم الضرورة. وبهذا الفعل، يبرهن على أن الإنسان لا يُعرَّف بما كان، بل بما يطمح إليه.
التحرر من الحسابات الذهنية ومن أثقال العلاقات ومن جمود الانتظار لا يعني الاستهتار، بل هو اقتراح شجاع لإعادة تعريف شروط العيش.
ثمة ما يشبه القفزة الحرة نحو بياض لم يُكتب بعد، نحو إمكانية أن يحاك نسيج الحكاية من بدايات متجددة، بلا عبء التجريب السابق ولا تكرار الأخطاء المألوفة.
حين يفلح الإنسان في إعادة تشكيل ملامح ذاكرته وهويته، فإنه لا يكتفي بتحقيق انتصاره الفردي، بل يسهم، بصورة غير مباشرة، في تحرير الفضاء الجمعي من سطوة التقاليد المعطِّلة.
المجتمع المتجدد لا يولد من نظريات كبرى، بل من أفراد قرروا كسر الدائرة، وتحويل ذاكرتهم من سجون شخصية إلى روافع إنسانية قادرة على إلهام غيرهم للخروج من الظل.
إن أعظم ما يمكن أن يقوم به المرء ليس حمل ماضيه، بل أن يتجاوز ما علق به من شوائب. المغامرة الكبرى لا تكمن في صعود القمم، بل في الجرأة على المحافظة على خصوبة الأرض الأولى مع تحسين إنتاجها بما يتوافق مع المستجدات البيئية والزمانية.
هي مغامرة الكائن الذي لا يرضى أن يكون مكانك سر يدور في نفس الدائرة، دون أن يصغي إلى نداء يعلو به إلى ما يمكن أن يكون.
فالمغامرة في جوهرها ليست أن نترك المكان ولا أن ننسلخ من ذواتنا وما نؤمن به وتربينا عليه، المغامرة تكمن في ترك ما يعيق تقدمنا كي لا نفقد الصدارة. أن نتحرر من الرواية التي كُتبت لنا، ولعلّ هذا ما يجعل التجربة أكثر صدقًا «
في أحيان كثيرة، تكمن الشجاعة في القفز نحو الجديد ونحن نحمل خرائط مدروسة، وفي الثقة بأنّ الحياة جديرة بأن تُجرَّب خارج النمط، وأن الذات قادرة على إعادة اكتشاف نفسها ما دامت الجذور حيَّة والاعتزاز بها باقٍ ولكن بملامح تجعلها أكثر نضارة وبهاء.
الفرد المرن الذي يستطيع أن يتحرك بسهولة بين الأصل والمستجد، يصبح أكثر استعدادًا للمساهمة في تشكيل بيئة خصبة العطاء، تُشكل معالم مجتمع أكثر رحابة، تُبنى فيه الروابط على الاحترام، وتُعاد فيه صياغة الأفكار تضمن له -بعد الله- استدامة النماء.