د. عبدالحليم موسى
إن الأدوات التي تجيد ترتيب الكلمات في إيصال الحقائق بكل أبعادها في الصناعة الإعلامية قليلة جداً، وأصبحت تتلاشى نوعاً ما، مع طغيان وسائل التواصل الاجتماع وتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ والتي برهن معها الإعلامي القدير عادل بن سعد الذكر الله؛ صاحب التجارب الإثرائية في الصحافة السعودية؛ مقالاً، وخبراً، وتقريراً، وقصة إنسانية تلامس تطلعات ورغبات المجتمع؛ من صاحبة الجلالة؛ على أن الصحافة باقية بقاء الإنسانية، حتى وإن تطورت وتعددت وسائل الإعلام ومدارسه في إيصال المعلومة في قالبٍ من الحقيقة والمصداقية.
ومما عزز ملف الذكر الله الإثرائي؛ سعيه الدؤوب في مجال المشاركة المجتمعية؛ حيث الورش والدورات العلمية بهيئة الصحفيين السعوديين.. التقيته في زمن تتسارع فيه الأخبار وتذوب الحقائق بين الضجيج والسكون.. ومع كل ذلك؛ يبقى الأستاذ عادل بن سعد الذكر الله شاهدًا على رحلة الزمن المتسارع الخطى نحو تناسي الذات، وصياغة الكلمات بميزان الفكرة، وتُخاض فيه التجربة لا من أجل الذات؛ بل من أجل أثرٍ يبقى.
قال سقراط: «الحياة التي لا تُراجع لا تستحق أن تُعاش»؛ فقد عاش الرجل حياةً لم تكن تكرارًا؛ بل تجديدًا دائمًا للوعي والسؤال.. فهو رجل تماهى مع الرسالة؛ لا بحثًا عن الضوء؛ بل إيمانًا بأنّ بصيصًا صغيرًا من الضوء قد ينير نفقاً طويلاً مظلمًا.. نشأته التعليمية كانت تأسيسًا لرؤية لم تكن محدودة بالإطار الأكاديمي؛ بل تجاوزته نحو ما هو أعمق.. الإنسان ككائن قابل للبناء؛ لا للبرمجة؛ فقد حصل على بكالوريوس في العلوم، ثم دبلومًا في الإدارة التربوية، ثم شارك في برنامج القيادة التربوية في اليابان؛ وهي تجربة عمّقت فيه قيم الانضباط، والقيادة بالصمت لا بالضجيج، والإقناع بالفعل لا بالكلام.
وتتردد هنا كلمات جون ديوي حينما قال: «التعليم ليس استعدادًا للحياة؛ بل هو الحياة ذاتها»؛ لم يكن صاحبنا يعلّم ليُلقن؛ بل ليوقظ موات الأسئلة من سباتها؛ مؤمنًا بأنّ السؤال الجيد مفتاح للمعرفة العميقة.. والتي قال معها إيمانويل كانط: «الاستنارة هي خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه»؛ وهذا ما مارسه الذكر الله في مسيرته التربوية؛ ساعيًا لإخراج الآخر من قيد التلقين إلى أفق التفكير.
وفي الميدان الإعلامي لم يكن الذكرالله مجرد قلم؛ بل روح تجوب الكلمات بحثًا عن المعنى؛ فقد بدأ مبكرًا كمحرر متعاون في صحيفة اليوم؛ قبل أن يصبح مدير تحريرها لسنوات امتدت حتى 2019؛ فهذه السنوات حملت مزيجًا من الاحتراف والمبدأ، ومن الكلمة المسؤولة إلى الإنصات الحقيقي لصوت المجتمع والعقل والمسؤولية.
لم يكن يكتب ليمدح؛ بل ليفهم ويُفهِم، وليمنح القارئ حقه في أن يرى ذاته في السطور.. كان مراسلًا إذاعيًا، ومحاورًا بارعًا؛ ساهم في تشكيل الوعي المجتمعي؛ حيث جمع في شخصه بين بساطة الحديث وعمق الطرح، وبين الإعلام الجماهيري والإعلام المجتمعي.. التي عبر عنها مارشال ماكلوهان بقوله: «وسائل الإعلام ليست فقط أدوات نقل، بل هي أيضًا أدوات تشكيل الوعي»؛ لم يكن صاحبنا غريبًا عن العمل المؤسسي الإعلامي؛ فقد تولى إدارة فرع هيئة الصحفيين السعوديين بالأحساء، وأسهم بجهد ملموس في تطوير المنظومة الإعلامية المحلية.. ولم يكن منصبه الإداري غاية؛ بل وسيلة لخدمة زملائه الصحفيين؛ فتح الأبواب، نسّق الفرص، دافع عن الحقوق، وسهّل سبل التدريب والتطوير؛ مجسداً مقولة غاندي حينما قال: «أفضل طريق لتجد نفسك هو أن تكرّس نفسك في خدمة الآخرين».
وفي محطته الإعلامية الأخيرة غادر منصبه في الهيئة بعد أن أسّس فيها روحًا جديدة قائمة على الاحترام والتقدير المتبادل بين الإعلامي والمؤسسة.. كان خروجه هادئًا؛ لكنه ترك أثرًا يبقى، ومسارات مفتوحة لمن جاء بعده.