عادل علي جودة
بينما كنت أجلس في السيارة أمام صالون الحلاقة منتظرًا دوري، فإذا بسيارة أخرى تتوقف خلفي مباشرة، والواقع أنني لم أشعر بشيء من الضيق خشية أن تعيق السيارة تحركي حين الانتهاء من الحلاقة مغلبًا حسن الظن أنه توقُّفٌ مؤقتٌ لن يستغرق الكثير من الوقت، وقد تأكد لي ذلك على الفور؛ إذ خرج منها شابان سعوديّان، واتجها نحو «محل البقالة»، المجاور لصالون الحلاقة، ودخلاه لوقت قصير ثم خرجا منه دون شراء أي شيء، ثم اتجها إلى «محل كَيِّ الملابس» الملاصق ودخلاه، وفي الأثناء أشار إليّ الحلاق - الشاب الخلوق «طارق» - بيده: «أن تفضل» في إشارة أن دوري قد حان، فأطفأت محرك السيارة ودخلت الصالون متجهًا إلى كرسي الحلاقة، وفور جلوسي دخل الشابان معًا، وبعد أن ألقيا تحية السلام قال أحدهما للآخر: «هذا هو الحلاق»، فشعرت أن هناك شيئًا ما يتسم بالأهمية القصوى، فوجدت جوانحي كلها تشرئبُّ إنصاتًا، وهكذا شاء الله سبحانه وتعالى أن أكون شاهدًا على موقف لافت لهذا الشاب الوقور وهو يوجه حديثه إلى الحلاق حاملًا بيدٍ هاتفه الجوال، وباليد الأخرى محفظة نقود، وجرى بينه وبين الحلاق الحوار السريع الآتي (بشيء من التصرف):
الشاب؛ مشيرًا إلى شاشة هاتفه الجوال،: أخي الكريم: هل يأتي هنا صاحب هذه الصورة للحلاقة؟
الحلاق: نعم، وقد زارني قبل بضعة أيام.
الشاب: هل لك عليه دَين؟
الحلاق: لا، ثم أردف بحزن عميق؛ هل مات؟
الشاب: - وهو يفتح محفظة النقود - نعم، وأرجوك؛ تذكّر جيدًّا إن كان لك عليه دَين؟
الحلاق: رحمه الله وعظم أجرك، لا لا، ليس لي عليه دَين.
الشاب: أرجو أن أسمع منك مسامحته.
الحلاق: كما قلت لك؛ ليس لي عليه أي دَين، ومع ذلك إني سامحته.
حينئذٍ وجدتني أنتفض واقفًا إلى الشاب، مادًّا إليه كف يميني مصافحًا، ثم عانقته معبرًا عن مواساتي له، وسائلًا الله سبحانه وتعالى أن يسبغ على والده شآبيب رحمته، وأن يربط على قلبه، ومن ثم هممت لأن أهمس إليه بأجل معاني التقدير والاحترام لهذه الوقفة العظيمة التي جسدها بروحانيته تجاه والده، إلا أنني لم أستطع إذ إن عبرتي - التي استلمها الشاب - ألجمت لساني.
ولمّا خرج الشابان تحسست جوانحي تخرج معهما، فانهالت عليَّ تساؤلاتي مصحوبة بدعائي لهذا الشاب بالمزيد من التُّقى، وأن يجزيه الله عن والده خير الجزاء، ثم سَرَت في أوردتي معالم رجاءٍ ما شعرت بها من قبل؛ «ألا ليت شباب الأمة مثل هذا الشاب»، لكنني في إطار ما شاهدت من مواقف همست داخلي؛ «واأسفاه إنها (ليت التمني) في خضم واقع مؤلم لا أراه يبشر بخير».
وهنا وجدتني أهتف بنصيحة من القلب إلى كل شاب أن؛ الله الله في أبيك، الله الله في بِرِّه؛ ليس فقط في حياته، إنما أيضًا بعد مماته، فإذا كان البِرُّ في حياته معلومًا لديك، ألا فاعلم أن برَّك به بعد مماته يبدأ بهذه الخطوة التي خطاها هذا الشاب الملتزم، عليك البدء مباشرة في قضاء الدَّيْن الذي تحمَّله أبوك لأجلك؛ لأجل مأكلك، ومشربك، وملبسك، وتعليمك، وليتك تتحسس حجم استحيائه من الآخرين وهو يمدُّ إليهم يَدَ الاستدانة، ثم ليتك تتحسس حجم انكساره أمام نفسه وأمام دائنيه وهو يحتجب عنهم بسبب عجزه عن سداد دينه.
نعم أيها الشاب؛ هكذا هو الدَّيْن؛ همٌّ يلازم المَدِين ليلًا، ومذلةٌ تلاحقه نهارًا، وارتهانٌ مُعلَّقٌ - بعد مماته - يحول دون دخوله الجنة، ولعلك مررت بالكثير من الأحاديث التي شدد عليها حبيبنا وساكن أفئدتنا نبي الرحمة محمد بن عبدالله؛ صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث الذي رواه النسائي عن محمد بن عبدالله بن جحش إذ قال: «كنَّا جلوسًا عندَ رسولِ اللهِ؛ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فرَفَعَ رأسَهُ إلى السماءِ، ثم وضَعَ راحتَه على جبهتِه، ثم قال: سبحانَ اللهِ! ماذا نزَلَ مِن التَشْدِيدِ؟ فسَكَتْنَا، وفَزِعْنَا، فلمَّا كان مِن الغدِ سأَلْتُه: يا رسولَ اللهِ، ما هذا التشديدُ الذي نزَلَ؟ فقال: والذي نفسي بيدِه، لو أنّ رجلًا قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، ثم أُحْيِيَ ثم قُتِلَ، ثم أُحْيِيَ، ثم قُتِلَ، وعليه دَيْنٌ، ما دخَلَ الجنةَ حتى يُقْضَى عنه دَيْنُه» [4605]. والحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال؛ قال رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عْنْه» [1078].
واعلم أيها الشاب أن برَّكَ بأبيك بعد مماته لا يبلغ مرادَه بدمعةِ عينٍ تسيلُ على الخد، ولا بصورَةٍ توضع له عبر وسائل التواصل الاجتماعي بمناسبة مرور سبعة أيام، أو أربعين يومًا، أو سنةٍ، على وفاته، إنما باستشعار المسؤولية العظيمة التي أثقلت كاهله من أجلك أنت وإخوتك جراء ذلك الدَّيْن، وبالسعي المخلص والجاد لقضائه ليس فقط فورًا ودونما تأخير، إنما قبل أن يوارى جثمانه الثرى؛ وأيضًا ليس هذا فحسب، بل أنت مأمور بالصلاة عليه، والاستغفار له، وإنفاذ عهوده، ووصل أرحامه وهم أرحامك، وإكرام أصدقائه، والتصدق عنه، وفي الوقت نفسه كن على يقين أن كل ذلك لا يوازي مقدار ذرة واحدة من فضله عليك. ألا هل بلغت؟! اللهم فاشهد.
وأما وصيتي لك أيها الأب؛ فإياك أن تكبّل نفسك بالدَّيْن، إياك أن تتجه نحو الاستدانة إلا لظروف قاهرة وشريطة ألا تضع في الاعتبار أن أبناءك سيتكفلون بالسداد عنك بعد وفاتك، إنما تكون على يقين، أو في أقل تقدير على نسبة عالية من حسن الظن، أنك قادر على قضاء دينك بنفسك، فحينئذٍ سيعينك الله على السداد، أو يسخر لك، وتذكر قول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «مَنْ أخذَ أموالَ النّاسِ يريدُ أداءَها أدَّى الله عنه، ومَنْ أخذَ يريدُ إتلافَها أتلَفَهُ الله» [2387]؛ ألا هل بلغت؛! اللهم فاشهد.
اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقهر الرجال.