مرفت بخاري
أشرُّ الناس عداوةً للإنسان، أولئك الذين يغوصون في أعماقه لا حبًا ولا فهمًا، بل حقدًا وتربصًا.
يترقّبون عثراته، ويتغذّون على زلاته، ويغرسون بخبثٍ نواياهم العميقة لإسقاطه في بحرٍ من التشكيك والإذلال.
إنهم يعلمون جيدًا أن ثمار أفعالهم لا تنضج إلا حين يرون ملامحه تنهار، وصوته ينكسر، وروحه تُستنزف.
فهم لا يرَون في سعادته إلا خيانة لخيباتهم، ولا في راحته إلا جريمة بحقِّ تعاستهم.
فكما أن الحب رزقٌ يُوهب، كذلك الكراهية رزقٌ يُبتلى به البعض، فتجدهم يحملونها تجاهك بلا ذنبٍ ارتكبته، ولا خطيئةٍ اقترفتها.
لعلّ وجودك فُرض عليهم بالإكراه، فأصبحت عبئًا يتمنّون زواله، وظلاً يُظلمون به رغم نورك.
وفي حقيقة الأمر، هم لا يعلمون شيئًا عن نوايا قلبك، تلك التي تُصدمهم بصفائها في عالمٍ يفتقد للنقاء.
يعتقدون أن صبرك على معاملتهم السيئة، وتجاوزك عن أخطائهم، ما هو إلا تمهيدٌ لخيانةٍ كُتبت في خيالهم، ونهايةٍ مخططةٍ في ظنونهم.
كل ردود أفعالهم، كل كلماتهم الجارحة، تُوجّه نحوك لا لتؤلمك فقط، بل لتجعل المكان يختنق بك، والزمان يلفظك، حتى تخلع نفسك منهم قبل أن تُقتلع.
وفي محاولاتك العقيمة لكسب محبتهم، وفي إصرارك الموجِع على أن يكون لك مكانٌ في قلوبٍ لا تسكنها سوى الريبة، تجد نفسك غارقًا..
غارقًا في بحر الظلمات، بلا مرسى، بلا مرافئ، ولا حتى نجمة تهديك طريق العودة.
لكن الغرق، رغم قسوته، يعلّمك.
ففي قاع الظلمات، تبدأ ترى الأشياء بوضوحٍ لم تعرفه وأنت على السطح.
تدرك أن بعض القلوب لم تُخلق لتحتويك، مهما لطفت، ومهما اجتهدت.
تدرك أن المحاولة للبقاء في أماكن تُطفئك، ليست شجاعة، بل إنها شكل ناعم من أشكال الفقد.
وهنا، تبدأ بذور التغيّر.
تتوقّف عن تبرير طيبتك.
تتوقّف عن السعي وراء قلوبٍ ضيقة لا تتسع إلا لنفسها.
تبدأ تصغي لنفسك، تُرمم ملامحك التي بعثروها، وتجمع بقاياك التي بعثرها حبّ بلا جدوى.
تنهض لا لتنتقم.. بل لتنجو.
تغادر ليس لأنك ضعيف، بل لأن قلبك يستحق البقاء في مكان لا يُساء فهمه.
وعندما تأخذ قرار الرحيل، لا تنظر خلفك كثيرًا.
فالأماكن التي تؤلمك لا تستحق كلمة وداع، ولا دمعة رجاء، ولا بوحًا يفسر انهيار الأمل وحجم الألم.
القلوب التي لم تحتضنك يومًا، لن تبكي غيابك.
امضِ في حياتك بلا ندم، بلا رجاء.
خذ معك كل شيء. لا تترك خلفك أي شعور للعودة أو للمحاولات البالية، ولا تتأسف على ما مضى.
فبعض الرحيل حياة، وبعض الصمت.. انتصار لا يُعلن.