د.عبدالله بن موسى الطاير
استقبل الإعلام والمجتمع باحتفاء كبير الذكرى التاسعة لرؤية السعودية 2030 .وبينما يُمعن الاقتصاديون النظر في نمو الناتج المحلي الإجمالي ومقاييس الإيرادات غير النفطية، والمستهدفات الاقتصادية والتنموية التي تحققت قبل أوانها، فإن التحول الذي يشهده المجتمع السعودي لا يقل أهمية عن المنجز الاقتصادي، ويتطلب اهتمامًا مماثلاً. رؤية 2030 ليست مجرد إستراتيجية اقتصادية، بل هي إعادة تصور جريئة للمعايير الثقافية والاجتماعية، تُعيد تشكيل حياة الملايين من السعوديين والمقيمين في المملكة على نحو لم يكن من الممكن تصوره قبل عقد فات من الزمن.
يظهر التقرير السنوي لرؤية السعودية 2030 للعام 2024، تقدمًا ملموسًا في شتى المجالات، ويكمن وراء الأرقام والنسب المعلنة تغير مجتمعي حيوي نلمسه في تفاصيل معاشنا اليومي. حفّزت ركيزة «مجتمع نابض بالحياة» في رؤية 2030 تغييرات غير مسبوقة، لا سيما بالنسبة للمرأة. في عام 2017م، مُنحت المرأة حق قيادة السيارة، في قفزة رمزية وعملية نحو فعالية المشاركة في مجتمعها والاعتماد على ذاتها في حركتها وتنقلاتها. وبحلول الربع الأول من عام 2024م، ارتفعت نسبة مشاركة الإناث في القوى العاملة بحيث تجاوزت المستهدف قبل موعده. كما ضاقت فجوة الأجور بين الجنسين، مما وضع المملكة في صدارة العالم في مجال ريادة الأعمال النسائية. هذه ليست مجرد إحصاءات، بل هي قصص نجاح تسجلها المرأة السعودية في كل المجالات.
لقد أعادت الرؤية تعريف الحياة العامة؛ فقد مثّل افتتاح دور السينما نهضة ثقافية نوعية، وأسهمت هذه النقلة في جودة الحياة. وقد حوّلت مواسم المدن السعودية، ومهرجاناتها وحفلاتها، المملكة إلى مراكز ترفيه، وجذب إقليمي وعالمي. النساء، اللواتي كنّ ممنوعات سابقًا من دخول الملاعب الرياضية، يحضرن الآن الفعاليات بحرية، والأماكن، التي كانت في السابق مقيدة الدخول بالعوائل أو للنساء أو الرجال فقط، تنبض اليوم بروح المجتمع ذكر وأنثى، ومن كل الأعمار، مما يعكس مجتمعًا يحتضن الحداثة مع تمسكه واعتزازه بتراثه الأصيل.
التعليم والتنمية الحضرية شاهدان آخران على هذا التحول الكبير، حيث تتحدى فصول التربية البدنية للفتيات المعايير الجنسانية التقليدية، مما يعزز الثقة والصحة بين الشابات، ويشارك شبابنا وشاباتنا في المنافسات العلمية والتقنية العالمية ويحصدون الجوائز ويسجلون براءات الاختراع على نحو غير مسبوق. وقد وسع برنامج جودة الحياة المساحات الخضراء، مع ارتفاع نصيب الفرد من المساحة العامة بنسبة كبيرة. لم تعد مدن مثل الرياض وجدة مجرد مراكز اقتصادية وحواضر تقليدية، بل مساحات حيوية جاذبة للعيش، حيث يشارك المواطنون في الرياضة والفنون والأدب والثقافة والأنشطة المجتمعية. وتقدم مشاريع مثل نيوم والقدية نماذج حضرية مستقبلية تعطي الأولوية للاستدامة والابتكار، مما يشير إلى تحول ثقافي سعودي نحو التكامل العالمي.
وفي حين يُشير تركيز تقرير 2024 على الكفاءة - حيث شارفت نسبة كبيرة من المؤشرات على الاكتمال - فإن الحاجة إلى تعزيز مشاركة أعمق للمواطنين لضمان الاستدامة هو تحد في متناول اليد فيما بقي من أعوام الرؤية. إن التحديث المدروس أعطى الأولوية للطموح متخطياً العوائق العملية، ومذللاً التحديات، لأن الجميع جاهز للمستقبل في تماه منقطع النظير بين النخب والعامة، حيث تذوب الفوارق تحت عنوان سعودي بارز.
وعلى الرغم من قصر المدة، والعقبات الكؤود، فقد شكلت رؤية 2030 بلا شك الهوية السعودية، دون التخلي عن الثوابت الدينية والثقافية والمجتمعية. وليس بغريب أن يقود الشيب والشباب السعوديون هذا التغيير، ويسهمون فيه رجالاً ونساءً، مُغتنمون الفرص في مجالات التكنولوجيا والسياحة والصناعات الإبداعية، والحرف اليدوية؛ الجميع مشارك، الجميع يعمل، الجميع يتفاعل، الجميع يبني. أجيال متكاملة تعيد تعريف معنى أن تكون سعوديًا. ومع اقترابنا من عام 2030م، بحدثه الرئيس المتمثِّل في جني ثمار الرؤية السعودية، يراقب العالم أمةً سعودية تُوازن بين التقاليد والتحوّل، وبين الأصالة والمعاصرة في واحدة من أنجح الثورات الحضارية التي عرفتها البشرية. الرؤية ليست مجرد اقتصاد، بل هي صحوة ثقافية تُثبت أن التغيير المجتمعي، عندما يكون جريئًا وشاملاً، يُمكن أن يُضاهي النجاحات الاقتصادية في تشكيل المستقبل.