د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
العنوان لا يتحدث عن حقبة ما بعد نهاية النفط التي تم تسييسها التي بدأت منذ ثلاثينيات القرن العشرين بعدما حذر تقرير صادر عن الأميرالية البريطانية من أن النفط ربما يصبح موردا نادرا في غضون عقدين، تكرر المشهد مرة أخرى عام 1970 عندما تنبأ نادي روما الذي حشد أفضل العقول في ذلك الوقت على مستوى أوروبا وقرروا بنفاد النفط بحلول عام 2000 وفي ذلك الوقت كان الاستهلاك عند 46 مليون برميل يوميا فيما اليوم يبلغ الاستهلاك عند 100 مليون برميل يوميا.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ظهر كتاب تغيير النظام: نحو مسار ما بعد الليبرالية لدينين مفاد الكتاب أن الأنظمة الليبرالية لا يمكنها ازدهار، أو حتى البقاء من دون نفط رخيص، وطالب دينين إنشاء نخبة جديدة واعية بذاتها يسميها الأرستوي لرعاية الآخرين الذين يفتقرون إلى المعرفة والخيال ولا يريدون سوى الاستقرار، وفي 1995 هناك ظهرت نغمة جديدة أن النفط سيفقد مكانته المهيمنة في غضون ثلاثة عقود ليس بسبب تضاؤل الاحتياطيات لكن هذه المرة بسبب تطور مصادر الطاقات البديلة، وينزعج هؤلاء من سياسات السعودية المناخية التي تهتم بالاقتصاد الدائري للكربون، وهو الأساس في التقاط وإعادة استخدام وتدوير أو تخزين الكربون، دون ان تخرج انبعاثاته إلى الغلاف الجوي، ولم تحقق أجندة الدول التي تسيس المناخ لأهداف التحول السريع وليس التحول التدريجي الذي تدعو له السعودية.
بل وصل الهلع بشكل خاص في أوروبا لأن أمريكا حققت الاستقلال النفطي والغازي عبر اكتشاف النفط والغاز الصخريين، ففي عام 2018 نشر باتريك دينيين من جامعة جورج تاون كتابا لماذا فشلت الليبرالية ادعى خلاله أنه مع نفاد النفط تجابه المجتمعات الغربية تهديدا وجوديا، لكن أيا من هذه الادعاءات لم تثبت صحتها، وهو ما أعطى السعودية مكانة بسبب دقة وصدق تنبؤاتها، وأنها أوضحت للعالم بأن النفط لا ينفد من العالم، هذا جانب، بينما الجانب الآخر فيما يتعلق بالمصادر البديلة تبدو مجرد وعود أكثر من كونها واقعا يمكن البناء عليه، خصوصا بعد كل هذه الضجة فإن كمية الكهرباء المولدة من النفط في العالم لا تتجاوز 5 في المائة من إجمالي الطلب العالمي على النفط، وأنه في موضوع الطاقة المتجددة، مهما كانت السياسات المناخية راديكالية فإن التأثير على النفط سيكون محدودا جدا.
يعتمد النمو الاقتصادي في السعودية تماشيا مع التزام صندوق الاستثمارات العامة بتطوير 70 في المائة من قدرة الطاقة المتجددة في السعودية بحيث تبلغ حصة الطاقة المتجددة 50 في المائة من إجمالي مزيج الطاقة بحلول عام 2030 إذ يركز الصندوق على الطاقة الكهربائية النظيفة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتحلية المياه بطرق مبتكرة والهيدروجين الأخضر للمساعدة في بناء أمن الطاقة وتعزيز التنمية، خصوصا وأن الطاقة النظيفة والموثوقة والميسورة التكلفة أهمية خاصة بالنسبة للنمو الصناعي السريع في السعودية، فضلا عن دعم أجندة الاستدامة. ما حققته السعودية في حقبة ما بعد النفط في أن العالم أصبح يدير بوصلته الاقتصادية صوب السعودية، والسعودية تبتهج بعهد غير مسبوق من النقلات التنموية الاقتصادية، والأنشطة غير النفطية تقود مساعي السعودية في تنويع الاقتصاد، وبناء اقتصاد تقوده التكنولوجيا الرقمية، وإعداد الشباب فكريا وعمليا لمرحلة ما بعد النفط التي آتت أكلها سريعا ،بنمو نوعي حققه الاقتصاد السعودي، لم يكن ناتجا عن ارتفاع أسعار النفط، بل من خلال القطاع غير النفطي الذي يشهده توسعا أفقيا ورأسيا، من خلال برامج تعزز فرص نمو الشركات الوطنية، وخطط لتنويع مصادر دخل السعودية.
من رحم الاستراتيجية السعودية ولدت قطاعات جديدة وفرص هائلة للشباب في قطاعات واعدة مرورا بالسياحة والترفيه إلى الخدمات اللوجستية والتكنولوجية والذكاء الاصطناعي والخدمات الرقمية، وتخطى الشباب حاجز المألوف في المهن والوظائف، بل إنه أصبح العمود الفقري لتلك المهن الجديدة، في إطار استراتيجية السعودية لتوطين الوظائف.
وقد حصلت السعودية على المركز الثالث عشر على مؤشر ثقة الاستثمار الأجنبي المباشر لعام 2025 الصادر عن شركة كيرني لتعزيز مكانتها كإحدى الوجهات الاستثمارية العالمية خصوصا وأن صندوق الاستثمارات العامة يمتلك ما يقارب من 940 مليار دولار من الأصول يهدف إلى تحفيز التحول الاقتصادي في السعودية والمساهمة في تشكيل الاقتصاد العالمي في إحداث تأثير مضاعف، وقد أسس 99 شركة في محفظته، واستحداث 1.1 مليون وظيفة مباشرة وغير مباشرة، وكشفت وزارة الاستثمار أن 571 شركة دولية تؤسس مقارا إقليمية في السعودية بنهاية 2024 متجاوزة مستهدفات الرؤية ب14.2 في المائة أي استحوذت العاصمة الرياض على نحو 90 في المائة من المقرات الإقليمية للشركات.
وسعى صندوق الاستثمارات العامة إلى زيادة استثماراته في الأصول الأجنبية بسرعة لتحقيق هدفه في 24 في المائة من محفظته، وأحدث ضجة بسلسلة من الصفقات البارزة، بما في ذلك ضخ 45 مليار دولار في صندوق فيجن التابع لسوفت بنك في عام 2016 و20 مليار دولار في صندوق البنية التحتية لبلاك ستون الأميركية في العام التالي، وفي السنوات التالية أنفق الصندوق الأموال في مجموعة متنوعة من القطاعات من شركة السيارات الكهربائية لوسيد، إلى مشروعها المثير للجدل ليف غولف، وشركات تعمل فيما بين السفن السياحية والتعدين، والأصول الرياضية، وشركات الألعاب، ولا يزال هناك نشاط كبير يجري مع العمل في سلسلة من المشاريع الضخمة بما في ذلك السياحة والرياضة والتعدين والتصنيع، وتستضيف السعودية سلسلة من الأحداث الدولية، بما في ذلك كأس آسيا لكرة القدم في 2027، والألعاب الشتوية في 2029، ومعرض اكسبو 2030، بالإضافة إلى ذلك فهي المتقدم الوحيد لاستضافة كأس العالم لكرة القدم 2034.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة ام القرى سابقا