أطلق أحد الزملاء ضحكةً خافتةً حين كان راكباً في المقعد الخلفي من السيارة التي كنا نستقلها، فالتفتُّ إليه مُبتسماً مُتسائلاً عن سرِّ تلك الضحكة، وإذا به ينظر إلى هاتفه ويقول: استمعوا لهذه (الطرفة): (أُصيب أحد الأبناء بالإغماء، ولما أحضره والده إلى الطبيب أخبره أنه قد مات، وحين شرع الأب في إجراء استعدادات الدفن إذا بالابن يفيق من الغيبوبة ويبشر أباه بأنه ما زال على قيد الحياة، فدفعه الأب إلى القبر بقوة قائلا: وهل أنت أعلم من الطبيب؟).
هنا انتهت (الطرفة)، وتلاشت ابتسامات الأصحاب بعد قليل من حكايتها، لكنها بقيت تثير في ذهني على بساطتها كثيراً من القضايا (الفكرية) و(الثقافية)، وما زالت أبعادها (الدلالية) و(الماورائية) تزاحم فكري وأسئلتها تستفز قلمي، ولأنَّ ما أثارته من قضايا ربما يخرج بعضها عن المجال الذي أود الحديث عنه هنا، فإنني سأكتفي منها هنا بالحديث عن القضية التي تبادرت إلى ذهني في المقام الأول، وهي (قضية نقدية) في غاية الأهمية؛ لأنها تتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة (الحكم النقدي) على (النص الإبداعي)، و(الاستقلالية) التي ينبغي أن تكون لدى (الناقد) حين يتعامل مع (خطاب) المبدع.
لقد تَحدَّث (النقد الأدبي) القديم والحديث عن أبرز صفات الناقد التي يجب أن يتصف بها أثناء (الممارسة النقدية)، ولم يُغفل بطبيعة الحال صفاتٍ من شأنها أن تجعل (الحكم النقدي) الذي يصدر عنه يتمتع بكثير من سِمات (العَدل) و(الإنصاف) حين بُغية إطلاق ذلك الحكم على (النص الأدبي) الذي يحاول هذا الناقد قراءته والحكم عليه، تأتي في مقدمتها (الموضوعية) و(الاستقلالية) و(عدم الانسياق وراء الأهواء الشخصية المتحيزة) أو (الوقوع تَحت تأثير الانطباعات الأولية السريعة)، وغيرها من الصفات التي تصبغ الحكم النقدي (بالموضوعية)، وتبتعد به عن (الذاتية)، وتَجعل (المتلقي) يتقبَّل (الحكم النقدي) على (الخطاب الأدبي) بصدرٍ (رحب)، واقتناعٍ (غير صعب).
لقد أمست هذه القضية تؤرق (المشهد النقدي)، وتقض مضاجع (المبدعين)، وترهق أذهان (المتلقين) الذين (ينتظرون) قراءة نقدية صحيحة وحكماً عادلا منصفاً من ناقد حصيف (يفترضون) فيه (الموضوعية) و(الاستقلالية)، إلا أنهم يفاجؤون أحياناً بغير ذلك، وحينها (يفقد) (المتلقي) (الطمأنينة) إلى (الحكم النقدي)، و(يتوجس) من كل (قراءة) لعمل أدبي.
لقد أوقع بعض النقاد أنفسهم في هذا (الفخ)، وقاموا (بتأجير) أذواقهم و(إعارة) آرائهم إلى غيرهم، وأصدروا أحكاماً لا تَمُتُّ (للموضوعية) بصلة، ولا تمس (الاستقلالية) بأدنى سبب، والسبب في ذلك راجعٌ إلى (التأثر الانطباعي الأول) عن المبدع، أو إلى اسمه شخصيته و(توهج) غالب إنتاجه، أو إرضاءً له ومجاملة لعمله، أو لمصالح مشتركة بينهما، وعندها يفقد الناقد (المصداقية)، ويسيء إلى نفسه وذوقه قبل أن يسيء إلى حكمه، وتضحي (قراءاته النقدية) (غير موثوق) بها، لأنه أسلم الزمام للهوى، وباع (حكمه) ورأيه بثمن بَخس.
بيد أن (المصيبة) الكبرى في هذه (القضية) ليست هنا، لأنَّ (الناقد) حين أطلق هذا (الحكم) على (العمل الإبداعي) قد علم أنه غير صحيح، وعرف أنه يُخادع (المبدع) و(المتلقي) اللذين ارتضيا أن يكون بِمثابة (الجسر) المساعد بينهما، وإنَّما المصيبة في (القارئ العادي) الذي يفعل ذلك دون أن يعلم، وينحرف به (الحكم النقدي) دون أن يُحس، وذلك لكونه أشد تأثراً بمثل هذه (المؤثرات) أثناء (الممارسة النقدية) (للعمل الأدبي)، وحين بغية إصدار (حكم نقدي) عليه، ولذلك نجد (الاحتفاء) المبالغ فيه (بالمبدع) وبكل ما يقول إذا كان معروفاً مشهوراً بِجودة الإنتاج و(توهج) الأعمال، دون (إعمال فكر) أو (بذل جهد) لإصدار (حكم موضوعي)، ودون ترك مساحة من (الحرية) للعقل والتفكير ليقولا كلمتيهما، ودون تحليق في (فضاءات التأمل) و(جماليات الذوق) ليُسمع منهما (رأيٌ) في هذا (العمل) الذي يقف (القارئ) أمامه.
إنَّ (أبا الطيب المتنبي) شاعرٌ عظيم، ملأ الدنيا وشغل الناس، لكن هذا لا يعني أن كل ما أبدعه دون استثناء (فائق الجودة) و(مرتفع القيمة)، و(أبو تمام) شاعرٌ متألق، استطاع أن يكتب اسمه بِمدادٍ من ذهب في (عالم الأدب)، بيد أنَّ هذا لا يَجب منه أن نُسلِّم (بروعة) قصائده جميعها وأبياته كلها، والفصل في هذا هو (القراءة الواعية) للنصوص والتأمل في (دلالات) معانيها و(جماليات) ألفاظها، والتحليق في (فضاءات) إيحاءاتها، وتقييم (جودة أساليبها)، ومن ثم الخروج (بِحكمٍ نقدي) (مُطمئن) (مُقنع)، وإصدار (قراءة موضوعية مستقلة) بعيداً عن أي (مؤثرات خارجية) يُمكن أن تتسبب في تغيير مسار طبيعة ذلكم (الحكم)، أو تبديل ماهية تلكم (القراءة).
لقد أثارت هذه القضية النقدية اهتمامات (المناهج الحديثة)، وذلك حين لاحظت أنَّ المناهج النقدية التقليدية تولي اهتماماً كبيراً ب( المؤثرات الخارجية) التي يُمكن أن تطغى على (النص) و(لغته) و(أسلوبه)، فالمنهج (التاريخي) و(الاجتماعي) و(النفسي) أولت العوامل الخارجية أهمية بالغة، فبعضها اهتمَّ بسيرة المؤلف وملابسات تأليفه وبيئته، وبعضها انشغل بما في النص من مضامين (اجتماعية) و(سياسية) ودور (الإيديولوجيا) فيه، وبعضها الآخر ركَّز على (المبدع) وحده بطبيعته النفسية وحياته وسيرته حتى تَحوَّل النقد معه تَحليلاً (نفسياً) لا (أدبيا)، وفي النهاية اتفقت هذه المناهج في قلة الاهتمام بالنص الأدبي من (داخله)، وإهمال القيم (الجمالية) و(الفنية) التي يَحملها هذا (النص)، وقد أحدث هذا النهج (ردة فعل) عكسية (مُتطرِّفة) لدى (المناهج النقدية الحديثة) وخصوصا (الشكلية) منها، فحصرت قيمة (العمل الأدبي) في (الشكل الفني) وحده، حيث يستمد (النص الإبداعي) قيمته الجمالية من (الأسلوب) و(اللغة)، دون أن يكون للعناصر الأخرى أيُّ تدخُّلٍ في صياغة هذه (الجمالية)، لا من قريب ولا من بعيد!
إنَّ (ردة الفعل) هذه -وإن كان مُبالغاً فيها حدَّ (التطرُّف)- تكشف عن (حرص) هذه المناهج على الاهتمام (بالنص الأدبي) بوصفه نصاً ولغةً وأسلوباً، والنظر إليه على أن غايته الأولى غايةٌ (إستيطيقية)/جَماليَّة، يقوم على (الإدهاش) و(الإغراب) من خلال (الانزياح) و(العدول)، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يؤثر على (الحكم النقدي) أو يسلب منه صفة (الموضوعية) أو (الاستقلالية)، حتى وصلت هذه المناهج إلى القول (بِموت المؤلف) في دعوة صريحة إلى وجوب تَجنُّب (الناقد) أو حتى (القارئ) العادي كل ما يُمكن أن يكون سبباً في إضفاء صفة (الذاتية) على (الحكم النقدي)، أو يكون مؤدياً إلى التنازل عن (إعمال العقل) و(إجهاد الفكر) تَحت تأثير هذه (المؤثرات الخارجية) التي كان الكشف عن (اسم المبدع) أكثرها تأثيرا.
وكعادة هذه المناهج في (التطرف) فقد تَجاوزت فيما بعد (التعويل) على (لغة النص) وحدها بغية عدم الوقوع تَحت أي (مؤثرات خارجية) أثناء إصدار (الحكم النقدي) إلى إعطاء (السلطة الأدبية) كاملة ودون حدود إلى (المتلقي) ليقول في (العمل الأدبي) ما يشاء، ويَحكم على (النص الإبداعي) بِما يريد، فهذا (النص) يُكتب لأجله، وهو الأحق بهذه (السلطة)، ففتحت بذلك أبواب (الفوضى) و(العبث) الذي أشرتُ إليه في غير موضعٍ من مقالاتٍ سابقة.
إنَّ تعامل (الناقد) و(المتلقي) مع (النص الإبداعي) بعيداً عن (المؤثرات الخارجية) التي يُمكن أن يسبب تدخلها تَحوُّلاً في (الحكم النقدي) وبالتالي خروجه خالياً من (الموضوعية) و(العدل) و(الإنصاف) هو المنهج الأمثل في التعامل مع (النصوص)، وهو الطريقة الأنسب في الحكم عليها، بيد أن هذا لا يعني بطبيعة الحال إغفال بعض الأمور الخارجية التي لا يمكن فهم (النص) دونها، أو يكون لها أثر كبير في (توجيه المعنى) والخروج بتصورٍ واضح عنه، فلا يَجوز (قطع النص) عن (سياقاته) الزمانية والمكانية، ولا يُمكن أن يُصدر (الناقد) حكمه على (العمل الأدبي) بِموضوعية وإقناع دون أن يأخذ في اعتباره (السياقات) المتعددة له، لكنه يصبح مُطالباً بألا يسرف في الاعتماد على هذه (السياقات) فلا يرى إلا من منظورها، بل يصبح مطالباً بأن يُوظِّف (السياق) لفهم (النص) بدلاً من أن يُوظِّف (النص) لفهم (السياق) وشرحه.
على كل حال فإنَّ هذا المنهج السوي في (التعامل مع النصوص) ومُحاولة إصدار (الأحكام النقدية) عليها من خلال (التأمل الخاص) و(الرؤية المستقلة) بعيداً عن (المؤثرات الخارجية) عمَّا قيل عن (النص) من أطرافٍ أخرى، أو عمَّا قيل عن (المؤلف) أو (القياس) على أعماله السابقة أو (التأثر) بقيمة (إنتاجه) العام، أقول: إنَّ هذا المنهج السوي هو منهجٌ إسلاميٌّ عامٌّ قبل أن يكون نقديا، فالمولى عز وجل حين أنزل القرآن لم يأمر المشركين بالإصغاء إلى ما قيل عنه أو الاستماع إلى ما وُصف به ليتبينوا إعجازه ويكتشفوا قمة بلاغته وفصاحته، بل وجَّههم مباشرةً إلى (النص القرآني) ليتأملوه بعقولهم ويتدبروه بقلوبهم، ومن ثمَّ الخروج بِحكمٍ (مُنصفٍ) و(عادلٍ) عليه كما قال جلَّ شأنه: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (استفتِ قلبك, وإن أفتاك الناس وأفتوك)، ويقول: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهتَ أن يطَّلعَ عليه الناس)، أما بعض (المتلقين) فقد رضي أن (يؤجِّر) عقله، و(يُعير) فكره، و(يتنازل) عن تأمله للآخرين، فصار يُردِّد ما يقولونه دون (موضوعية)، ويتلبَّس بأحكامهم دون (استقلالية)، وصار حال هؤلاء كحال ذلك الأب الذي فضَّل تصديق ما سَمِعَهُ من الطبيب على ما يراه بعينه، أو كحال صاحبنا الذي أنشد:
وَمَا أنا إلا مِن (غُزَيَّةَ)، إن غَوَت
غَوَيتُ، وإن تَرشُد (غُزَيَّةُ) أَرشُدِ!
Omar1401@gmail.com
الرياض