استيقظت كعادتي كل صباح، على صوت المذياع الذي ينادي للصلاة، ثم الحديث النبوي ثم ترنيمات صوت المذيع لبرنامج صباحي ثم.. تتكرر.. تلك المواضيع في ميعادها من مذياع أبي الذي ينساب صوته في غرفتي ليل نهار بصوت عال، وهو يغط في نوم هادئ، فهو يصحو باكراً للصلاة وقبلها للتهجد وهذا المذياع يؤانسه ويصحبه في كل سكناته وحركاته حتى مع نومه. أما أنا فأستقبل تلك الأحاديث وتلك البرامج التي ألفتها أذني وتردد صداها في خاطري، ومازالت تصدع.. أرفع يديّ وأضعها على جفني، أعركهما.. ثم أسحب جسدي وأفتح باب غرفتي. وعندها أتذكر طيري الصغير أركض.. أضع له الماء وبعضاً من الحبوب، أقترب من قفصه فيهب منشرحاً ويقفز كعادته إلى مقدمة باب القفص متشبثاً بالباب وكأنه يريد فتحه، ويترنم بنغمات الترحيب التي يخالطها تغريد الحزن، فتجول عيناي تعاطفاً ويتهلل قلبي فرحاً عندما أراه ينحني لالتقاط الحَب.. ويرفع رأسه.. وبعد لحظات يقفز مجدداً إلى الباب ولكن بقوة وحزم ويستدير ويستدير لعله يجد منفذاً نسيه مع زحمة أحزانه وزمجرة أحلامه يحلم بالهروب.. يحلم بالطيران.. بالتحليق في الفضاء.. لكن يستدير في قفصه، ثم يرحل بحلمه بعيداً، وبعد لحظة يفيق.. يرفع رأسه يحدّق بسقف القفص، ثم ينحني ويعلق نظره عليّ، ويحرك جناحيه، ولسان حاله يقول: افتح لي الباب.. حرر قيدي.. ويصفر ويغرد، وكانت سمفونية حزنه التي تقطع أنياط القلوب تداعب قلبي، فتطرب لها أذني؛ لأني أمتلكه فهو طيري.. يغرد لي.. ويصفر لي.. ويشير بجناحيه.. محبة لي، فتشع ابتسامتي وأعود إلى غرفتي لأستعد لاستقبال يومي.
وما أن أعود والتعب أخذ مني ما أخذ وتسربت ذكرياتي، حتى أجده في قفصه يغرد مرحباً أصعد أقف بقربه وأمسح بيدي قفصه.. أجلب الماء والحَب.. ولكن.. يصمت.. ينطوي.. يطوي جناحيه وينعزل بعيداً، وعينه تبث عتباً وألماً فلا يعبأ بالحبوب، وصمته الهادئ يمزّق أحشائي. لماذا لم يغّرد ؟ أين صفارته المعهودة بفرحة الغذاء ؟ أين ؟. نظرت إليه، ولسان حالي يقول: ليتني أحقق حلمك، وأزيل حزنك، وأبدد سواد يومك.. ليتني.. لكنك رفيق وحدتي، وصديق أنسي. كيف تلوذ بالصمت ألفت أذني تغريدك. أعرف من صوتك فرحك وترحيبك، أعرف أيضاً حزنك، وألمك. فوحشة الساعات وغربة الأيام تطول، وتجول في قلبك. لا تنظر إليّ هكذا، أعرف أن الحرية كنزٌ لا يفنى أن الحرية انطلاق.. وسعادة لكن.. لكني أحبك، أحب رؤيتك مع بزوغ الفجر وانقشاع الظلام، ومولد يوم جديد تغريدك افتتاحية يزهو بها خاطري وتسرّ بها نفسي.
في ليلة شتوية برقت السماء، وزمجر الرعد همست في داخلي.. أين طائري لم أسمع له صوتاً هل اختفى مع زحمة الأصوات ؟ وغربلة المفاجآت، يا تُرى هل غادر المكان وهرب ؟ هل فك قيده ؟ لكن كيف ؟ وبينما تداعبني الذكرى وتفتك بي الأحلام.. إذ بيد تهز كتفي بقوة، وبعد لحظة اصطدمت عيناي بأبي وهو يصرخ: أفق!! أين رحلت ؟.. هيا.. هيا.. معنا لنذهب من هنا.. الدخان وزعيق السيارات.. والغر....
- هه..
أفقت من غفوتي.. أحاول انتشال نفسي لألقي بها في وحل الواقع المرير..
-نعم.. لكن..
- هيا.. اذهب واجمع أمتعتك.. !! يجب أن نرحل.
- لكن إلى أين ؟..
شدّ يدي وهرول بي وأثناء بعثرة خطواتي مستدلاً بممشى أبي.. وطريقه.. وقع نظري على القفص.. يهتز.. يهتز لوحده.. ففرت دمعتي من مقلتي.. وصرخت: أين... أين... ؟! تفوه أبي: لنذهب من هنا، هيا لنشتري صحيفة اليوم حتى نعرف أخبار أخيك، وعن الأسرى ماذا حلّ بهم ؟ فشع في ذهني كلماته القاتلة، التي صفعت أحلامي، وطوتها في حقيبة الماضي. أغمضت عيني. وتذكرت واقعي.. أخي أسير.. وأمي تنزف دماً.. في المشفى.. وأختي الصغيرة ترقد على كتف أبي، ويده تمسك بيدي مرات وتتركها مرات أُخر، وقدماي تسحب جسدي سحباً. هجرنا الوطن وهجرنا المنزل، انقضت الحرب بأهوالها، فمزقت وحدتنا وبعثرت بعضنا وشردت أطفالنا، وأحرقت مُدننا واعتقلت بعضاً منّا، والبعض الآخر خلفته جثثاً ألقت بها في الطرقات فريسةً للكلاب وأعوانهم. طوفان شلّ حركة مدينتنا. انتشل أبي الصحيفة بشوق وفردها بسرعة وعينه تسطر أوراقها، تبحث عن شيء هام.. شيء فريد.. فلذة كبده.. لنعرف أخباره لكن.. ترقرقت دمعاته وخارت قواه فجلس، ورمى برأسه بين فخذيه، ينظر إلى الأرض بانكسار مددت يدي وجمعت وريقات الصحيفة ونظرت إلى بعض عناوينها فوقع نظري على عنوان.. الأسرى يغادرون إلى.. !!
لمع في ذهني منظر طائري، البلبل الصغير بجناحيه الطويلين، عندما.. أقترب منه، يلوح بجناحيه ويحركهما بسرعة وبعد لحظات، يغرق بخيبة أمله.. فينكسر ويتكوم في قاع القفص عندها عرفت قيمة الحرية وأحسست به آه.. ليت ا لأيام تعود لأفتح بيدي باب قفصه.. آه أهتز القفص وسقط وانكسر بابه من شدة صوت القنابل واهتزاز المدافع حيث سنحت له الفرصة للهرب فطار، طار وهرب ولم يعبأ بي.. بل لم يسأل عني.. آه تغريده.. يتردد في مسمعي.. لن يهرب من ذاكرتي، فقد حفرت له خندقاً فيها ونسجت له قصيدة بصوته المغرّد في فضاء خاطري.