أثار الدكتور إبراهيم التركي في محاضرته المنشورة في الثقافية والتي ألقاها في مهرجان «عنيزة الثالث للثقافة» صراع الثنائيات/ الكتابة بين اقتناع الذات ورؤية الآخر» جدلية جديرة بالنقاش وهي هل العقيدة الثقافية للذات الكاتبة مخيّرة أو مسيرة؟.
وهي جدلية تتضمن إشكالية «عقيدة الاختلاف الثقافي» والقوانين المتحكمة في الضغط على الحرية الثقافية للذات الكتابة، ودور ذلك الاختلاف وتلك القوانين في تشكيل الصراع بين الثنائيات الثقافية، ونشأة الدكتاتورية الثقافية.
ينشأ الفعل الإنساني ويتطور بصفة عامة وفي الإنتاج الكتابي بصفة خاصة كما ألمح التركي في فاتحة محاضرته من خلال منظومتي»الذات والآخر»، ومع ذلك يحيط بتلك المنظومتين العديد من المداخلات المعقدة، مثل مفهوم وحد وسقف وشرط استقلالهما عن بعضهما البعض أو شراكتهما أو استعمار أحدهما للآخر.
وهذه المسألة هي التي ركز عليها التركي في فاتحة محاضرته، أي؛ فالعقيدة الثقافية للكاتب كما يرى التركي تتأثر بثلاثة عوامل «الذات/ الآخر/ الرقيب»، والرقيب بمستوييه الأنويّ والسلطويّ.
فهو يرى أن وجود الآخر أو الرقيب الذاتي يندرج تحت «المسئولية الأخلاقية» للذات الكاتبة نحو الآخر، وتلك المسئولية هي التي تنظم «الحرية الجامحة» للذات الكاتبة.
واشتراطه بوجوب مراعاة «المسئولية الأخلاقية» للذات الكاتبة سواء على مستوى المنظومة الغير رسمية للجماعة أو على مستوى المنظومة الرسمية من خلال الرقيب الخارجي، هو من باب «احترام العقيدة الثقافية للذات الكاتبة» «لحق الآخر» في المشترك الثقافي.
وبذلك فالتركي يمارس «حلحلة ثقافية أحادية الجانب» لثنائية الذات والآخر، لأنه يرى أن «حرية الاختلاف للذات» هي «حق غير مكتسب»؛ لأنها مشروطة «بموافقة الآخر» و «بموازنات التطابق مع تعاليم العقل العرفي» للمجتمع، وهو ما يعني أن «حق الاختيار الثقافي للذات الكاتبة» أو «حقها في التداول الثقافي» أو «حقها في الكفر الثقافي» مرتبط بإرادة ورغبة ومباركة الآخر، وهذه الوصاية الثقافية من الآخر على الذات الكاتبة هي التي تُنتج «صراع الثنائيات» بالنسبة للعقيدة الثقافية الثورية.
في حين لو عدنا إلى الأصل، سنكتشف أن الأصل هو أن حرية الاختلاف هي «حق مكتسب» دون اشتراط من الآخر بالتزام العقيدة الثقافية الخاصة بأعرافه الثقافية، أو استغلال الآخر لمنطقة «المشترك الثقافي» بينه وبين الذات الكاتبة لممارسة أبوية على العقيدة الثقافية للذات الكاتبة.
في هذا الجانب يقف «الغذامي» بشعاره الثقافي «قل رأيك ولا تبالي»، وهو مبدأ قائم على الأصل أو ما ينبغي أن يكون الأصل في أن «حرية الاختلاف» وهي «حق مكتسب» لكل فرد دون أي شروط من الآخر أو استغلال للمشترك الثقافي للطرفين.
وكما مارس التركي «حلحلة ثقافية أحادية الجانب» من خلال إخضاع الذات الكاتبة للعقد الثقافي الوجداني للجماعة بموجب «المشروطية الاجتماعية» و«المشروطية الرسمية»، مارس كذلك الغذامي «حلحلة ثقافية أحادية الجانب» ضمن شعاره الثقافي «قل رأيك ولا تبالي» من خلال تحريض العقيدة الثقافية للذات الكاتبة على الكفر بأبوية الثقافة، والذي مثّل بدوره نموذجا لذلك الشعار في فترة الثمانينات الميلادية عندما تبني «الحداثة».
وإذا كان التركي يشترط «وجود الآخر» من خلال أعراف المشترك الثقافي بين الطرفين أو «القدريّة الثقافية»، كمؤثر في تشكيل العقيدة الثقافية للذات الكاتبة.
فالغذامي لا يشترط «تأثير وجود الآخر» في تشكيل العقيدة الثقافية للذات الكاتبة بما يعني عند الغذامي إلغاء للمشترك الثقافي بين الطرفين، بل والتشجيع على التمرد على الأبوية الثقافية للرمز أو للجماعة لأنها تضمن «أصالة» و«استقلال» و«حرية» العقيدة الثقافية للذات الكاتبة، وهذا التوجه الغذامي نجده واضحا في كتاب «الفقيه الفضائي».
وهذا المذهب الغذامي-الذي انتمي إليه أنا- هو الذي شكّل أزمة العلاقة بين «المثقفين ورجال الدين السعوديين» على مستوى الأول، وشكّل توجه بعض المثقفين نحو «محاكمة الأبوية الثقافية والمقدس الثقافي» على المستوى الثاني، كما شكل أسلوب «الصدمة الثقافية» عند أتباع المذهب الغذامي من المثقفين على المستوى الثالث.
وتلك المستويات الثلاث هي التي تشكّل بنية «العقيدة الثقافية للذات الكاتبة» عند المذهب الغذامي، أي الاستقلالية ولأصالة والحرية.
أما مستويات العقيدة الثقافية للذات الكاتبة عند التركي فهي تتوازى بنوع ودرجة تأثير الآخر فهي تتعدد ما بين «الآخر المؤيِد للذات» و«الذات الكاتبة المؤيِدة للآخر» و«الآخر الناقد للذات» و«الذات الكاتبة الناقدة للآخر» والآخر «المستبد الذات» و«الذات الكاتبة المستبدة بالآخر».
وهكذا تتحرك الذات الكا تبة والآخر ويُحركان من خلال تلك المستويات، والمُنشِئة «لصراع الثنائيات».
ونلاحظ أن مستويات الاقتناع والرؤية بين الآخر والذات عند التركي تنبني على مبدأ وجود «فرص ثقافية متكافئة» للطرفين الثقافيين على مستوى الحوار والدفاع الثقافيين؛ أي «التوازي الثقافي»، الذي يحول الثنائيات من صراع ثقافي إلى قوة ثقافية ناعمة للتغيير.
في حين أن «المذهب الغذامي» للعقيدة الثقافية ينبني على مبدأ أن « البقاء الثقافي للأقوى» وهذا المبدأ يحول «الثنائيات» إلى «صراع ثقافي» ويُحول « صراع الثنائيات» بدوره إلى «ثورة ثقافية» كتلك التي قادها الغذامي لترويج «نظرية الحداثة» ولم يستطع إكمالها؛ لتجاهله«المشترك الثقافي» في «رضا الجمهور الثقافي» بالتغيير وتنفيذه، لإيمان المذهب الغذامي بأن «العقيدة الثقافية للذات الكاتبة مخيّرة لا مسيّرة».
و«الرضا الثقافي» للآخر هو الذي يشترطه التركي لتحويل «صراع الثنائيات» إلى «قوة ثقافية ناعمة» للتغيير؛لإيمان التركي بأن «العقيدة الثقافية للذات الكاتبة مسيّرة لا مخيّرة».
وبذلك فالمذهب الغذامي يشترط وفق ذلك مبدأ أن «العقيدة الثقافية للذات الكاتبة مخيّرة» «انتصارا ثقافيا» مقابل «هزيمة ثقافية» من خلال تغيير العقل الثقافي للجماعة ؛لأن الانتصار هو برهان على أن «العقيدة الثقافية مُخيّرة لا مسيّرة»، وبرهان على «حق العقيدة الثقافية في الكفر بالأبوية الثقافية والمقدس الثقافي العرفي»، ودافع «للعقيدة الثقافية» إلى الثورة على «أساطير الأوائل الثقافية» التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ولاشك أن جدلية «هل عقيدتنا الثقافية مخيّرة أو مسيّرة»؟ تظل هي مركز الصراع الثقافي السعودي، ويظل الاختلاف حول قدرية العقيدة الثقافية أو اللاقدريّة قائما.
وقفة:
للدكتورة لمياء باعشن عودة حميدة لقد اشتقنا إليك.
ضوء:
«لا مهرب من حكم الأقدار
يا أيتها الأنثى/ قدري…»
-
+
جدة