الحديث عن هذه المرحلة الجديدة من الوعي الاجتماعي في السعودية يشبه غيره من الكلام الذي يحاول تلمس جذور الوعي بين الناس، ويشبه كل الملاحظات التي يمكن أن يلتقطها الباحث عن المجتمعات الأخرى حينما تمر بلحظة مغايرة عن تاريخها القريب، كثيراً ما حملت هذه المراحل في تاريخ المجتمعات الإنسانية صراعاتها الكلاسيكية، كصراع القديم بالجديد، أو الدين بالعلم، هذه الصراعات التي تنتج موجات دعوية تطغى على التفكير، وهذه الموجات الدعوية ليست دائماً ظلامية، فالتنوير أيضاً يقدم دعواته التي تطغى على التفكير وقد تضلله، وسؤالنا هنا ليس عن القديم الذي يتحجر ويرفض التغيير، ولا عن الدعوات التي تقاتل لأجل بقائه، إنه السؤال السعودي اليوم عن التنوير في بلاده هل تحول إلى دعوة طاغية؟
الصراع الذي نعيشه اليوم بين دعوة تنويرية باختلاف مسمياتها وبين دعوة تقليدية تنحصر باسم إسلاموي وحيد، هو صراع يعرف الجميع أنه من كلاسيكيات التغيير الاجتماعي، لكن الذي تتجاوزنا معرفته هو أن الرغبة التنويرية التي نصطف في جهتها قد تنزلق بنا إلى ما يشبه حرب الشوارع الفكرية، ففي الشارع مثلا الناس تعرف بعضها بأسمائها لا بأفكارها، والذي يحدث اليوم أننا كجهتي صراع نعرف أسماء بعضنا أكثر مما نعرف أفكارنا، نعرف أعلام الليبرالية ونعرف نجوم الصحوة، نتجاوز ونقول إننا نعرف التيار الليبرالي والتيار الصحوي، وبقطع النظر إن كان الطرفان يشكلان تياراً بالمعنى الاجتماعي التاريخي للتيار الذي يؤسس ويقدم أعماله وينفذ برامجه ونشاطاته على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والإعلامية، أو أن الأمر يقتصر على حوارات إعلامية ومقالات صحفية فقط.
إذن بقطع النظر عن الأدق في تسمية جهتي الصراع هل هي تيارات أم مجرد أسماء محدودة فإن الذي يظهر على ساحتنا المحلية بوضوح أن انشغالاً شديداً من الطرفين «بالدعوة إلى فكره» يطغى على الانشغال «بفكر هذه الدعوة»، وليس هذا خطأ الطرف التقليدي بل هو جزء أساسي من نجاحه أراد ذلك أم لم يرد، فالفكر التقليدي يحتاج من يدافع عنه فقط لأنه موجود وراسخ ومتأصل اجتماعياً، هو فكر مألوف يعرفه الناس ولهذا الدعوة إليه لا تكون بلفت الانتباه له بل بصرف الانتباه عنه، لأنه مسبقاً حجز مكانه في التفكير الاجتماعي، التقليدي يخاف من التركيز عليه ولهذا يسعى أن يسحب صراعه مع التنويري إلى الشارع الفكري بدلاً من صراع الفكر المجرد، الفكر المجرد الذي لا يفهم العنوان إلا بموضوعه، بينما فكر الشارع فهو يفهم العنوان وفقط دون أن يهتم لموضوعه، والشارع الفكري هو الذي نعيشه كسعوديين الآن من حيث أن الفكر التنويري اليوم يقتصر على مهاجمة الفكر التقليدي في عناوين محدودة وأسماء معروفة، السعوديون اليوم لا يعرفون مواضيع تنويرية لأن التنويرين اقتصروا في دعوتهم على مهاجمة التقليدي فقط، وإن كان الهجوم على الأعراف والعادات والفهم السلبي للدين هو عمل تنويري مهم، فهو أيضاً ليس إلا عملاً أولياً جداً، التنوير كفكر مجرد هو الخاسر في هذا الصراع القائم الآن، ليس السؤال هنا في الاستفهام المزعج الذي يدور بيننا بمن هم المفكرون السعوديين، بل السؤال ما هو المنتج الفكري الجديد الذي يفلسف وينظر ويبني مقولاته في التغيير؟!
الهدم عمل أساسي وأولي، والشك قيمة علمية وعقلية، والفكر الذي يزحزح أوهام الناس ومخاوفهم فكر إنساني يسعى وسعى عليه التنويريون السعوديون، لكن الوقوف عليه يعني تحوله من فكر إلى دعوة، والدعوة في أهم معانيها تقصد الجمود والتوقف عن التفكير، الآن في السعودية صار يمكن للكثير أن يجزم بأن التنويري سحب البساط من القديم والتقليدي لكنه توقف عند هذه اللحظة، ثمة عجز عن بسط فكر جديد يقوم على ما تم هدمه، لا زال الفكر التنويري يصدر عناوين رفضه للقديم أكثر من قدرته على اجتراح مواضيع أو كتابة جديدة، لقد تصدرت عناوين من نوع «لا لحرمان المرأة من القيادة» لكن أحداً بعد لم يطرح مواضيع من نوع «توسيع حق الأنثى في وسائل الإنتاج» مثلاً.. التجربة التنويرية السعودية بدأت إذن، لكن الخوف من أن يحمل التنويري في أجندته نظاماً من الأولويات دائماً ما قاتل ضده، أوليات تتعثر بالزمن وتتعذر بالواقع، تقاتل في سبيل الممكن وتخشى التفكير بأبعد من الحاضر، الخوف من أن تتوقف تجربتنا التنويرية وتنكفئ على الدعوة بدلاً من أن تستمر وتؤسس لفكر حر من الصدام مع الماضي والذاكرة الشخصية للإنسان التنويري فينا.
-
+
Lamia.swm@gmail.com
-الرياض