خالد الأنشاصي، لكثير ممن لا يعرفونه، هو مسئول ثقافي في جريدة الوطن، وقد توصل في عموده الأسبوعي «فضفضة» (الوطن الجمعة، 1 رجب، 1433هـ) إلى حل عبقري يخلص الرجال من «الصراخ الذي تملأ به المرأة آذانهم عن حقوقها الضائعة والمستلبة والمنهوبة والمغتصبة و.. و.. إلى آخر هذه الصفات التي تأتي في غالبها بضخامة جبل..» والجبل الذي يذكره هنا ليس اعتباطياً، فهو متصل اتصالاً مباشراً بعنوان المقال «حين تلد المرأة فأراً»!!! هل هناك عنوان أكثر لباقة وذوقاً؟
خالد الأنشاصي رجل منزعج من كثرة مطالبة النساء بحقوقهن، فيضع نفسه في مصاف باقي الرجال على هذه الأرض ويفترض أنهم كجنس بشري أرقى، يشاركونه انزعاجه وتوتره من أولئك النسوة و»عويلهن» الذي ما عاد يُطاق، لذلك تفتقت قريحته عن حل جذري، فأمسك بقلمه، كما فعل الإسكندر الأكبر بسيفه، وقطع العقدة الأنشاصية، كما قطع الإسكندر عقدة غورديان المستعصية، بضربة واحدة حاسمة. لا أعرف حقيقة من أين استوحى الأنشاصي حلاً لعقدته ووضع الأمور في موازينها الصحيحة بإسكات النساء وإيقافهن عن العويل حتى يعم الهدوء أرجاء الأرض ويصل البشر إلى السلام الدائم!!
يبني الأنشاصي أطروحته الفكرية على أسس عقلانية متماسكة:
1) المرأة العربية منذ عصر الانفتاح - باعتقاده - لم تقدم ما يشفع لها كممثل لنصف المجتمع.
2) هناك شواذ لهذه القاعدة لا يتعدى عددهن «أصابع اليد الواحدة، أو اليدين على الأكثر!» يتبادر إلى ذهنه منهن: هدى شعراوي وبنت الشاطئ من مصر، غادة المطيري ونورة الفايز من السعودية، والعداءة الأوليمبية نوال المتوكل من المغرب. فعلاً: لا أكثر من خمس نساء، أي امرأة لكل أصبع من يد واحدة.
3) بما أن النساء لم يفدن من الحريات التي نلنها في بلدان عربية أخرى، فالأحرى بالنساء السعوديات أن يصمتن ولا يطالبن بحقوق مسلوبة، مثل قيادة السيارة أو عضوية مجالس الأندية الأدبية.
4) بناء على ما سبق من المعطيات السببية الجوهرية، فإن القول العبقري الذي سيقطع قول كل خطيب هو كالتالي: «على المرأة أن تثبت للمجتمع أنها كائن مفكر، مخترع، محرك، وساعتها ستأتي كل الحقوق». إي والله، لم أزد حرفاً ولم أنقص..!!!
أنا لا أريد أن أكتب دفاعاً عن النساء، لكنني وبكل إصرار أريد أن أفكك هذه العقدة الأنشاصية التي عادت بنا في النهاية من حيث بدأنا، وكأننا داخل عقدة بوذية لا نهائية. هذا الرجل الذي هو مسئول ثقافي في جريدة الوطن يجزم بأن «المرأة العربية لم تقدم ما نتطلع إليه منها فكرياً وثقافياً ومجتمعياً». أين يقف هذا الرجل ليطلق هذا الحكم الجائر؟ في الدور العاشر من مبنى الثقافة والفكر والمجتمع ينظر إلى القاع حيث تقبع النساء المتخبطات في دياجير الظلام والجهل؟ من فوق أي عتبة من الإنجازات التطورية يتطاول، ثم يرمق النساء العربيات بشذر ويطالبهن بسجل حافل من «الخدمات الجليلة التي أفادت البشرية بشكل عام»؟؟
ولست هنا بصدد تقديم ذلك السجل للأنشاصي، خصوصاً أني أفتقر إلى سجل ذكوري مماثل، ولن أقدم له قائمة بأسماء نساء كثيرات تفخر بهن بلادهن العربية، فقد كان هذا واجبه قبل أن يتهور بكتابة مقال ناقص منقوص ومنتقص اعتمد فيه ثلاث مرات على ما «يتبادر إلى ذهنه» المتكاسل. لكني أعاتبه وبشدة على أنه بعد توصله لهذا الحل العبقري: «على المرأة أن تثبت للمجتمع أنها كائن مفكر، مخترع، محرك، وساعتها ستأتي كل الحقوق»، إنه تركنا دون خارطة طريق، وأنا هنا أطالبه بخطة إجرائية تشرح لنا، ونحن طبعاً قاصرات عن الفهم، كيفية تطبيقه.
أولاً: لمن يريد الأنشاصي من المرأة أن تثبت نفسها؟ للمجتمع الذكوري مثلاً كونه قد توصل بجميع أفراده إلى أعلى درجات الكمال الفكري والاختراعي المحرك؟ أتصور محكمة رجالية يضع أفرادها رؤوسهم سوياً ويستعرضون محاولات النساء في تطوير ذواتهن، وكل يوم يعبرون عن عدم رضاهم، ويدفعون بهن للوصول إلى المستوى المطلوب ليصبحن مثلهم ذات يوم بعيد.
ثانياً: كيف ستثبت المرأة أنها كائن مفكر ومخترع ومحرك؟ بالتعليم وقد تعلمت؟ بالعمل وقد التحقت بالأعمال المحدودة المتاحة. أن تكتب مثلاً؟ مؤلفاتها تملأ المكتبات في جميع المجالات العلمية والفكرية والأدبية. أن تعيد اختراع الذرة مثلاً، أم تصمم مركبة فضائية؟
ثالثاً: إذا كان الرجل الذي يقف في الدور العاشر من مبنى الثقافة والفكر والتطور هو قدوة المرأة التي تتخبط في ظلمات الجهل، أليس من حقها وهي التابعة والمقلدة، أن تتساءل ببراءة وعفوية: لماذا لم تضطر أنت يا مثلي الأعلى أن تثبت أنك كائن مفكر ومخترع ومحرك حتى تنال حقك في قيادة السيارة والحصول على عضوية في مجلس إدارة نادٍ، وغير ذلك من حقوق إنسانية لا حصر لها؟؟ وهل كل ما على الرجل فعله لينال حقوقه هو أن يكون ذكراً؟ أم أن كونه ذكراً يعني بالضرورة أنه كائن مفكر ومخترع ومحرك؟ يا لها من جعجعة لا طحين لها!!
رابعاً: كيف تقترح أن تتحرك المرأة في ظل كل هذه القيود وضياع الحقوق لتعمل على إثبات كونها كائناً؟ كيف، والممنوعات تحجم قدراتها وتقلصها وتقزمها، ستتمكن من إنجاز أي شئ يذكر؟ المنطق الأنشاصي يقول: لن نعطي النساء هواء حتى يؤكدن لنا أنهن قادرات على التنفس.
وحين نقف على انزعاج الأنشاصي من العويل النسائي على الحقوق المسلوبة نكتشف أنه يعترف أنها مسلوبة، ومنهوبة ومغتصبة، هو فقط لا يريد من النساء المطالبة بها بصوت عال، وإنما بالعمل الصامت، يعني بالمصري: اشتغلي ونقطينا بسكاتك. ما دخل كل ذلك بالمرأة التي تلد فأراً يا ترى؟ العقدة الأنشاصية تفيد بأن صراخ النساء يتعالى مطالبات بالحقوق المسلوبة، ولكن حين تمنح لهن بعض الحقوق لا يقدمن عملاً يوازي كل هذا الصراخ: «صراخ بحجم جبل، ولكنه لا يلد في النهاية إلاّ فأراً!.» قد يتساءل عاقل من بيننا، من الذي يلد هنا الصراخ أم المرأة؟ من المفترض أن الصراخ في هذه المعادلة المنطقية يساوي الحقوق ولا دخل له بالمنتج الحقوقي، يعني الصراخ يعلو كلما علت قيمة الحق المطالب به، والحق لا يأتي بقوة مغناطيسية يحفزها العمل الصامت، وإلا كيف يُفسر لنا الأنشاصي نجاحات ثورات الشباب العرب الذين ضربوا بالصمت الخانع عرض الحائط وعلا صراخهم وعويلهم في مطالبة صاخبة بالحقوق والحريات؟
المرأة حين تطالب بحقوقها فليس من حق أحد من الرجال أن يُسائلها: وماذا استفدنا من الحقوق التي منحناها لك؟ فهي لا تريد حقوقها من أجل أحد سوى ذاتها. والمرأة التي تلد الرجال يسؤوها تنكرهم لأفضالها عليهم، وأنا بحق أتمنى من كل رجل، حين يريد أن يطلق أحكاماً مطلقة عن النساء، أن يستحضر وجه أمه التي ولدته، يستحضرها ولو من أعماق أنشاص البصل، أن يتذكر ملامحها وحنانها وحمايتها له وتغذيته جسداً وفكراً، كل تأديبها وتهذيبها ونصحها وتوجيهها، ثم يحاول أن ينظر في عينيها ليقول لها: المرأة (أنت) حين تطالب بحقوقها لا تلد سوى الفئران. هل سيستشعر حينها عقوقه وسوء أدبه؟ إن لم يستشعر ذلك، فربما فعلاً، المرأة قد تلد أحياناً فئراناً.
-
+
lamiabaeshen@gmail.com
-جدة