في حوار لجريدة الأهرام اتهم الغذامي المثقف العربي “بالزيّف” وأنّ الربيع العربي “كشف زيف المثقفين وأسقط عنهم أقنعتهم” و “وهم قيادتهم للجماهير”، ووصف المثقف ما قبل ثورة الربيع العربي “بالمثقف التقليدي” و أنّ ثورة الربيع العربي أخرجت المثقف التقليدي من وهم “القيادة المزعومة والمتوهمة”، ليصبح ذلك المثقف ما بعد ثورة الربيع العربي في موضع” الدفاع عن النفس “و “الاستجابة لضغوط الشارع”، ولم يَعُد “ينتج المصطلحات ويصبها على الناس”.
وهو ما يعني رسمياً سقوط “الأبوية الثقافية” في ظل هيمنة شرعية الجماهير التي صنعت ثورات الربيع العربي.
وأنّ المثقف التقليدي ظل جزءاً من النظام الذي سقط وأنه في نهاية المطاف سيضطر إلى التماهي مع التغييرات الجذرية التي أحدثتها ثورة الربيع العربي وإنْ لم يكن مقتنعاً بها.
والغذامي بهذه الإشارة يتهم بقايا المثقفين ما بعد ثورات الربيع العربي بالدمى المنافقة؛ التي لن تتبع مبادئ الثورة إلاّ اتباع المضطر لا المؤمن.
وبذلك فالغذامي ينزع عن المثقف ما بعد ثورة الربيع العربي فاعليته، ليجعله مجرّد تابع للمتحوّلات التي تقودها الثورة، بل هو يشكك في تلك الفاعلية وفق الأصل لا المقتضى.
وهو ما يجعلنا نبحث عن استفسار لدلالة “نزع الفاعلية” من المثقف عند الغذامي.
وهل تحمل تلميحاً بإعلان موت المثقف ما بعد ثورات الربيع العربي، وخاصة أن الغذامي في حواره سكت ولم يُفصح عن “العلامات الثقافية للمثقف غير التقليدي “ في ظل ثورات الربيع العربي، أو يُلمح بعلامات تجديد جلد المثقف ما بعد المثقف التقليدي، و ركز على المضامين التجديدية لثقافة ما بعد ثورة الربيع العربي، لا المضامين التجديدية للمثقف ما بعد ثورة الربيع العربي.
ومن يقرأ حوار الغذامي، سيلاحظ أنه تحدث عن المثقف ما قبل ثورة الربيع العربي الذي وصفه “بالمثقف التقليدي” و تحدث عن الثقافة في ظل ثورات الربيع العربي وما بعدها، ولم يتحدث عن المثقف ما بعد ثورة الربيع العربي.
وهو ما قد يوجه اعتقاد من يقرأ الحوار أنّ الغذامي يعلن بطريقة غير مباشرة عن موت أبوية المثقف العربي ما بعد ثورات الربيع العربي.
ولعله لذلك لم يقدم لنا علامات توصيفية للمثقف الجديد ما بعد ثورات الربيع العربي لعدم وجوده أصلاً، ومن تنعدم علامته تنعدم هويته.
وقد يكون سكوت الغذامي عن إعطاء أي علامة توصيفية لمثقف ما بعد ثورة الربيع العربي أو مثقف ما بعد المثقف التقليدي، يعني أمراً من أمرين؛ أولهما أنّ السكوت عن إعطاء العلامة التوصيفية، يعني أنّ تمييز ماهية المثقف بعد ثورة الربيع العربي يقصد به استتباع الحدث؛ أي “المثقف الثوري”، والاستتباع الارتباطي للفكرة القائمة في ذاتها يجعل السكوت شاهد إثبات للفكرة لا نفي لها.
كما أنّ إثبات صفة ما قبل يمكن عكسها كصفة لما بعد؛ فإذا كانت صفة المثقف قبل ثورات الربيع العربي “تقليدياً”، فصفة المثقف بعد ثورات الربيع العربي “غير تقليدي”، وبذلك فهو يكتفي بوصف تمييزيّ يؤكد أنه لم يَعُد داخل نطاق المثقف التقليدي لإثبات التغيير.
والأمر الثاني يعني أنّ “إلغاء وجود ممثل الماهية” هو إعلان موت المثقف.
وأظن أنّ الغذامي قصد المعنى الثاني من سكوته عن إعطاء “علامة الإحياء “ للإشعار “بإعلان موت المثقف”.
وأميل إلى هذا التوجه لعدة مؤشرات؛ فالغذامي روّج “لسقوط المثقف النخبوي / التقليدي” منذ 2004 في كتابه “الثقافة التلفزيونية عن سقوط النخبوية وبروز الشعبي”.
و أعتقد من لديه ميل “للإسقاط” ففكرة “الموت” أقرب لذلك الميل من فكرة “الإحياء”.
إضافة إلى أن خاصيتي الزيف والوهم تدعمان فكرة الغذامي نحو “موت المثقف” أكثر مما تدعم فكرة “الإحياء و التجديد”.
كما أن نفي الغذامي لحقيقة وجود فاعلية “المثقف الليبرالي” المخوّل لفاعلية التجديد، يعني من باب “نفي وجود لوجود” باعتبار أنّ المثقف غير قادر على صلاحية الفاعلية؛ لأنه لا يملك على الحقيقة فاعلية التوجيد، وبذلك تصبح الصلاحية قرينة لعدم الاستطاعة لا لقيمة الوجود في ذاته.
وكانت علامة سقوط المثقف النخبوي التي استدل بها الغذامي في حواره، و اعتمد عليها في نزع فاعلية المثقف، هي تعدّد مصادر المؤثِر الثقافي و تعدّد صوانع الرأي العام، والتي بدورها أضعفت القيمة التأثيرية والقيادية للمثقف.
والتعددية على مستوى المصادر والصوانع، تساوي في قيم التأثر و التأثير، وهو ما يسهل عملية تعويض بدل الفاقد، وبذلك يصبح المثقف مجرّد جزء من منظومة التأثير والتأثر يملك تعويض غيابه ببدل فاقد من بقية إجزاء المنظومة.
وبذلك لم يَعُد المثقف هو المصدر الأوحد للتأثير والتأثر كما لم يَعُد الصانع الأوحد لصناعة الرأي العام، وهذا ما حدث بتركيز شديد قبيل اندلاع ثورات الربيع العربي و بعد اندلاع الثورات، فصمت المثقف ال عربي و سلبيته قبل اندلاع ثورات الربيع العربي وفي بداياتها أزاح المثقف من نقطة الضوء الأخيرة التي كان يتركز فيها و أبدلته بوجوه و أصوت ملئت دائرة الضوء وقادت الجماهير.
ولم ينتبه المثقف العربي إلى مصيره عبر شرائح بدائل الفاقد إلا بعد طرده من دائرة الفاعلية و التأثير.
وهذا ما تطرّق له الغذامي في كتابه الثقافة التليفزيونية “ بدائل الفاقد” .
فتعدّد بدائل المثقف “الجوال والحاسوب والنت” و خروج ثورات الربيع العربي من تغريداتها و صيحاتها، سحبت من المثقف أحاديته كصانع للتأثير و للرأي العام، كما أن تعدُّد بدائل مصدر المعلومة مثل “الجوال و النت و الحاسوب” جعلت كل حامل لهذا المصدر يقوم بنفس وظيفة المثقف، وبذلك أصبح غياب المثقف غير مضرّ في ظل وجود بدل فاقد مستمر من خلال تلك الآليات.
ما يلفت النظر في حوار الغذامي أيضاً، أنه نسب تشكل نتائج التغيير للثقافة وليس للمثقف ، وهو ما يؤكد على الأقل حسبما أعتقد على قصدية الغذامي “لإعلان موت أبوية المثقف العربي”.
كما أن تنسيب نتائج التغيير للثقافة، تعني أن المثقف في ظل ثورات الربيع العربي، سيكون “مفعولاً” “لا فاعلاً”، وأن الفاعل الحقيقي لصناعة ثقافة ما بعد ثورة الربيع العربي، سيكون بيد “معاني التحوّلات و الجماهير”.
ومتى ما خرج المثقف من لعبة الفاعلية كان أقرب إلى الموت من الإحياء، ومتى ما فقد دور القيادة وعاد إلى الصفوف كان أقرب إلى الموت من الإحياء.
وسيظل المثقف العربي وقتاً طويلاً يُعاني من آثار ضعفه و سلبيته سواء ما قبل ثورات الربيع العربي أو في ظل بداياتها. وستحتاج الشعوب العربية وقتاً طويلاً، حتى تستعيد إيمانها وتصديقها وثقتها بالمثقف، وتبرئه من المشاركة في جرائم النظام الذي كان يتبعه، وأن تقتنع بحجته بأنه كان يصفق لتلك الأنظمة و يشجعها من قبيل “مكرهاً أخاك لا بطل”.
لا شك أن موت المثقف في ظل ثورات الربيع العربي هو موت للأبوية الثقافية أو ما كان يعتبر رمزية لشرعية الثقافة، وهذا الموت سيُجدد الفاعلية الثقافية للعرب بعد أن استعمرها رجال باعوا قضايا شعوبهم على موائد الأنظمة و العربدة.
فما بعد ثورات الربيع العربي هي “ثقافة الثورة” لا “مثقف الثورة”، ما بعد ثورات الربيع العربي موت الأبوية الثقافية تعني أن المثقف سيُصبح “خادماً لثقافة الثورة” لا “الثقافة هي من تخدمه” كما كان ما قبل ثورة الربيع العربي.
صحيح أن سقوط الأبوية الثقافية عبر موت “المثقف التقليدي” ستفتح الباب على مصراعيه في كل دولة عربية “لفوضى الثقافة” التي ستنشر من خلالها الارتجالية و الانفعالية وعدم الاستقرار لدلالة المفاهيم، لكنها فوضى خلاّقة تهدم لتبني، وعلينا أن نشارك في الهدم لنستحق المشاركة في البناء.
أو كما يقول الغذامي” من الضروري أن ندفع ثمن التغيير بمقدار ما يكون التغيير جذرياً، ولا يمكن أن تكتمل شروط التغيير إلاّ إذا دفع كل واحد منا وكل طرف من الأطراف الأثمان المستوجبة لهذا التغيير”.
- جدة
sehama71@gmail.com