نشأت نظرية التعبير في النصف الأول من القرن التاسع عشر في أوروبا مرافقة للمذهب الرومانسي، وصانعة لقاعدته المفاهيمية تجاه الفن على يد أبرز شاعرين ناقدين رومانسيين، هما الإنجليزيان وليام وردزورث في مقدمته لديوانه «غنائيات» (1798م) وصموئيل تيلور كولردج في كتابه «السيرة الأدبية» (1817م)، الذي ترك أثراً في النقد الإنجليزي، وقد نقلت أبرز أفكاره إلى العربية عبر كتاب «كولردج» الذي أصدره محمد مصطفى بدوي عام 1958م، وترجمه عبد الحكيم حسان بعنوان «النظرية الرومانتيكية في الشعر: سيرة ذاتية أدبية لكولردج» عام 1971م. لكنها مضت، بعد ذلك، إلى ملء ثغراتها النظرية واكتساب مزيد من التماسك النظري والشمول والبرهنة على القيمة، لدى الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي أوجين فيرون الذي وصف مؤرخ الفلسفة الجمالية جيروم ستولنيتز كتابه «علم الجمال» (1878م) بأنه أول عرض منهجي لها، كما وصف جهد الروائي الروسي ليو تولستوي الذي خصص لها كتابه «ما الفن؟» (1878م) بأنه جهد يفوق ما بذله أي كاتب آخر في نشرها، ولا يقل عنهما جهد الناقد الفرنسي الأمريكي كيرت دوكاس الذي عمقها ودافع عنها في كتابه «أنت والنقاد والفن» (1944م) وفي غيره من مقالاته وكتبه، إضافة إلى الوضوح الذي أضفاه عليها الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي روبن جورج كولنجوود في كتابه «مبادئ الفن» (1938م)، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية د. أحمد حمدي محمود عام (1966م).
وتألقت نظرية التعبير عربياً منذ العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، عند بروز مدارس التجديد الشعري، مثل مدرستي «الديوان» و»المهجر» اللتين اقتفتا الوجهة الرومانسية في التصدي لتقليدية الكلاسيكية وضيق معاييرها وعمومها، وما نتج من ذلك من تنظيرات للفن ولقيمة الإبداع كان مجلاها مقدمات الدواوين التي يكتبها الشاعر نفسه أو أحد النقاد، وقد أصبحت - آنذاك - ملمحاً ظاهراً في تمييز دواوين المجددين مثل مقدمة العقاد للجزء الثاني من ديوان عبد الرحمن شكري وعنوانها «الشعر ومزاياه» (1913م) ومقدمته لديوان المازني (1914م) ومقدمة عبد الرحمن شكري نفسه للجزء الثالث من ديوانه وعنوانها «العاطفة في الشعر» (1915م).. إلخ، إضافة إلى الكِتاب الذي سميت مدرسة «الديوان» باسمه، للعقاد والمازني، عام (1921م)، وكتاب ميخائيل نعيمة «الغربال» عام (1922م).
وحين نلقي الآن نظرة إلى أبرز مفهوم نظري تحكَّم في الممارسة النقدية الأدبية في الثقافة العربية طوال القرن العشرين أو أغلب أجزائه فإننا لا نكاد نجد نظرية تضارع نفوذ نظرية التعبير. فالمفهوم الذي أسسته للأدب عبر علاقته بالانفعال متداول لدى عامة من يتعاطى الأدب وخاصتهم على حد سواء. والفردية والصدق والوحدة العضوية والتأكيد على قيمة الخيال إلى جانب الانفعال، والاعتقاد بامتياز عبقرية الأديب وإحساسه وقدراته التعبيرية التي تفرقه عن الإنسان العادي، ومن ثم أهمية شخصيته وفرديته التي ترتِّب فهم الإنتاج الأدبي ومنهجية تحليله على الإلمام بسيرته وحياته، غدت مألوفة ومكرورة، ولا تزال سارية وإن كانت على نحو أقل إلى الآن. وقد لا تعطينا الكتب المنشورة التي تبرهن على ذلك في حقل الدراسات النقدية الأدبية - على كثرتها - دليلاً حاسماً أكثر من تصفح ببلوجرافيا الرسائل الجامعية في الحقل ذاته. فصيغة عناوين على غرار «فلان حياته وشعره»، أو نحوها من الصيغ التي تقدم شخصية المبدع على إنتاجه، أو تحيل أي فهم لهذا الإنتاج إلى دلالة التعبير عن الانفعال ومقتضياتها، بالمئات.
لكن الفكر النظري الأدبي جاوز نظرية التعبير إلى نظريات أخرى، وتقادم العهد بها الآن. فما وجه الأهمية المعقودة على الحديث عنها؟ وللإجابة عن ذلك ينبغي القول إن أهمية الحديث عنها الآن ماثلة بقوة، من وجهين: الوجه الأول وجه عام في الوعي بحداثة أي نظرية أو قدمها، وحضورها أو غيابها، ويكمن في ضرورتها لفهم غيرها من النظريات التالية لها أو السابقة عليها وفق مبدأ التعارض الثنائي بين الدوال، وهو تعارض تتولد معه النظريات وتتعاقب وكأنها تحكي فعلاً والرد عليه، من دون أن تختم إحداها القول وتغني عن غيرها. أما الوجه الثاني - وهو متصل بالسابق - فيبدو في حضور نظرية التعبير ومعاصرتها بأشكال وصيغ عديدة، كما في مفهوم الفن ووظيفته لدى الفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشيه (1866-1952م) وأطروحات الفيلسوفة الأمريكية سوزان لانجر (1895-1975م) والناقد السينمائي الألماني رودولف أرنهايم (1904-2007م).
ويُضاف إلى ذلك عودة بعض ما استلزمته نظرية التعبير كالتأكيد على شخصية المؤلف وسياقه التاريخي والسيري في بعض أطروحات ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، كما في دراسات التابع والأقليات، وما تلقاه الرومانسية إجمالاً من تعظيم عند أحد أعلام التفكيكية -مثلاً- وهو الناقد الأمريكي هارولد بلوم الذي ورث تعظيمها -ربما- عن أستاذه إم. إتش. أبر امز صاحب الكتاب الشهير «المرآة والمصباح: النظرية الرومانتيكية والتقليد النقدي» (1953م) الذي ينتصر فيه للمصباح، وهو التمثيل الإيجابي الذي يستعيره لفعل الإبداع الأدبي من وجهة نظرية التعبير، مقابل المرآة وهي تمثيل نظرية المحاكاة لديه الذي أفضى إلى أن يكون الفن فيها - فيما رأى - في مرتبة أدنى من الحياة ذاتها.
ولا يقل عن ذلك في الدلالة على نفاذ نظرية التعبير في الزمن وأهمية الوظيفة التي تحملها على الفن، وتحمل الفن عليها، ما نجده من انبثاق شعور بمدى الخسران الذي آل إليه الأدب حتى أصبح «الأدب في خطر» على نحو ما عنون تودوروف كتابه الصادر عام (2007م). وليست هذه الخطورة بسبب شيء لدى تودوروف إلا لأن الشكل أو الوسائل وهي هنا أدوات التحليل للأدب أصبحت غاية، فيما انتهت إليه النظرية الأدبية من شكلانية وعدمية أفضت إلى اغتراب الأدب وفقدانه وظيفته النفسية الانفعالية. تلك الوظيفة التي يورد تودوروف - وهو من الأسماء المعدودة في التنظير للأدب من الوجهة البنيوية وما بعدها - في معرض جزعه من هذا المصير شاهداً على قيمتها في الأدب من حديث جون ستيوارت مل في سيرته الذاتية الصادرة بعد وفاته عام (1873م). وشاهد تودوروف من ذلك الحديث ما يرويه ستيوارت مل عن انهياره العصبي الخطير الذي أُصيب به في العشرين من عمره، فأصبح فاقد الحس بكل لذة كما بكل إحساس ممتع. واستمرت هذه الحال الأليمة طوال عامين. ثم، شيئاً فشيئاً، انفرجت. ويعيد ستيوارت مل هذا الانفراج إلى ديوان شعر لوردزورث لعب دوراً فريداً في شفائه؛ لأنه -كما يقول- وجد فيه التعبير عن إحساساته الخاصة، وقد تسامى بها جمال الأبيات؛ فبدت له منبعاً يستقي منه الفرح الباطني ومُتَع التعاطف والخيال التي بمقدور كل الكائنات البشرية اقتسامها.
وقد نقول إن تجربة ما في التفاعل مع الأدب هي مثل اشتقاق بعض العناصر دون غيرها من النظرية عند هذا الناقد أو ذاك، ليست - في النتيجة - الدلالة الكلية للنظرية التي تمنحها وحدة بحيث يغدو كل تجاوز لها منشأ جديداً للنظرية. وهذا صحيح تماماً، لكن هذه الصحة تذكرنا بخطأ في تصور نظرية التعبير أو غيرها من النظريات بهذه الأحادية التي تضيق عن استيعاب وجوه من التنوع والاختلاف داخلها. فإذا كانت نظرية المحاكاة - كما رأينا - نظريات متنوعة ومختلفة، وإن توحدت في انضوائها تحت عنوان المحاكاة، وكان ما ينتمي إلى أرسطو منها - مثلاً - هو إحالة مفهومية إلى تماسك نظري مختلف عما ينتمي منها إلى أفلاطون أو بن جنسون، فإن نظرية التعبير هي نظريات مختلفة ومتنوعة، وإن تشاركت في أصل واحد هو قيام علاقة بين الإنتاج الأدبي ومؤلفه.
ويبدو أن ما لقيته نظرية التعبير من أهمية ونفاذ في الزمن يعود إلى مكانة الانفعال فيها ومركزيته؛ فالانفعال فردي، وإلى هذه الفردية يمكن أن نحيل ما تضمنته نظرية التعبير من ثورة واحتجاج على الكلاسيكية الجديدة التي آلت بالنظرية الأدبية والفنية إلى قيود في الأشكال والموضوعات، وإلى تزييف للذاتية الحقة وما تستلزمه من صدق؛ لأنها تكرس دوماً جملة من الموضوعات التي ترى أنها هي فقط انفعالات لائقة ووقورة. هكذا كانت نظرية التعبير - من هذه الوجهة - المعنى التلقائي لنشدان الحرية والشغف بها والتشوف إليها. وإذا نحن اختبرنا متعتنا بالأعمال الأدبية والفنية، وتفاعلنا معها، فلن تخذلنا انطباعاتنا في الشهادة لما بلغته نظرية التعبير من انتشار واستحواذ، بسبب دلالتها على الفردي والذاتي بالمعنى الذي يجعلها موازياً للحرية وصدى لوجودها، فنحن نعبر عن شعورنا أو انفعالنا بهذه القصيدة أو تلك الأغنية أو اللوحة أو القصة... قائلين: إنها شجية أو حزينة أو مرحة أو راقصة أو مؤثرة أو دافئة أو عنيفة... إلخ. وهي أوصاف وإن عبَّرت عن مشاعرنا تجاهها فإنها تحمل ما نعتقد أنه وصف لما فيها من انفعال، أي لما تعبر عنه من انفعال يصدر عن مؤلفها ويصدق عليه.
لهذا كانت العلاقة بين نظرية التعبير والحرية في الواقع الاجتماعي مداراً لاستمداد الشهادة على تمثيلها دلالة العلة أو المعلول لهذا الواقع، وذلك من الوجهتين المثالية والواقعية اللتين تتضادان في حساب الترتيب للواقع على الفكر أو العكس. فنظرية التعبير، لدى المؤرخين لها من الوجهة الواقعية، هي انعكاس للتغيرات الجذرية التي هزت المجتمع الأوروبي بعد الثورة الفرنسية على الإقطاع، ثم نمو الطبقة الوسطى -في أعقاب الثورة- وهيمنتها وقيام نهضة صناعية واقتصادية منذ منتصف القرن الثامن عشر أفضت إلى تبلور الروح الفردية ونموها وتطلبها واقعاً جديداً بعلاقات ديمقراطية. وهو الأمر نفسه الذي يركن إليه المؤرخون لنشأة نظرية التعبير في الفكر العربي، فهي - لدى جابر عصفور مثلاً - الموازي النظري للرومانسية العربية التي كانت الموازي الإبداعي للفكر الليبرالي الذي شاع ما بين الحربين العالميتين. وهي هنا وهناك، من الوجهة المثالية، جزء من بناء سببي فكري وثقافي ولَّد الحرية في الواقع، فأصبح هذا الواقع الحر دلالة ذلك الفكر وأثره والشاهد عليه. ومن الوجهتين أصبحت نظرية التعبير لازم الأدب الجديد وموضوعاته الجديدة وما فيه من ثورة على القيود الكلاسيكية والارتهان إلى الزخرفة والصنعة والتقليد، مثلما هي ملزوم ذلك بالدرجة نفسها.
لكن مصطلح «التعبير» Expression نفسه يثير سؤالاً لا بد من الوقوف عنده؛ فالتعبير على إطلاقه وسيط لمضمون، ولا يخصص الانفعال الذي هو جوهر المعنى وركيزة النظرية في إضافتها إلى التعبير وتسميتها به. ألا يمكن أن يكون (التعبير) عن أفكار وليس عن انفعالات؟! كيف - إذن - يصلح لتخصيص التعبير عن الانفعال دون إشارة إلى الانفعال؟ وقد نقول هنا إن الاصطلاحات تعني أكثر مما تدل عليه في مقتضاها اللغوي، أو على غيره، و»لا مشاحة في الاصطلاح» كما هي العبارة المأثورة. لكن لماذا لم يستبدل الانفعال بالتعبير؟ وإذا نحن راجعنا مصادر النظرية فسنجد فعلاً من يطلق عليها نظرية الانفعال، وجيروم ستولنيتز أحدهم، وفي مقابل ذلك نجد شيوعاً لتسميتها بنظرية التعبير عند عديدين كما لدى إم. إتش. أبرامز في كتابه «المرآة والمصباح»، وفي معجمه لمصطلحات الأدب... إلخ. وهناك من يتناولها باسم «النظرية الرومانسية». وقد يبدو التركيز على توصيل الانفعال - وليس التعبير عنه - كما لدى تولستوي مبرراً لتسمية طرحه النظري في إطارها ب»نظرية العدوى theory of infection». وأرى هنا أن مصطلح التعبير يحمل دلالة لا تؤديها بدائله المستخدمة؛ لأن نظرية التعبير كما سنرى لا تنظر إلى الانفعال إلا متجسداً في تعبير، وذلك - على الرغم من الثغرات التي اعتورت مقولاتها عند هذا أو ذاك - يقطع مع أي تصور عن أن يتخذ الفن سبباً للانفعال أو وصفاً له، أو أن يكون محض انفعال. كلا إنه تعبير، والتعبير دلالة وعي قصدي.
- الرياض