للشعراء رؤيتهم المتميزة، ونظرتُهم الاستثنائية، ويتجلَّى ذلك حين يعرضون تَجاربَهم على الملأ، ويُصوِّرون خبراتِهم العريضة، خصوصاً حين يكون الحديث عن هذه الدنيا العجيبة، وعن هذا الدهر المتقلب، ويضحي الموقف أكثر تشويقا حين يصوغ هذه التجارب والخبرات شاعرٌ بِحجم أبي الطيب المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وها هنا لَمحاتٌ سريعة، ووقفاتٌ موجزة عن قصيدته الشهيرة التي يصف فيها الدهر والناس، ويبث من خلالِها حكماً وأبياتاً ما زالت الأفواه تُردِّدها، والألسن تتغنَّى بِها حتى يومنا هذا.
يقول أبو الطيب:
صحب الناس قبلنا ذا الزَّمانا
وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولّوا بغصَّةٍ كلّهم منه
وإن سرَّ بعضهم أحيانا
ربَّما تُحسن الصنيع لياليه
ولكن تُكدِّر الإحسانا
وكأنّا لم يرض فينا بريب
الدهر حتى أعانه مَنْ أعانا
كُلَّما أنبتَ الزَّمان قناةً
ركَّب المرء في القناة سنانا
ومراد النفوس أصغر من أنْ
تتعادى فيه وأن تتفانى
غير أنَّ الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
إنَّ الناظر المتأمل لألفاظ هذا النص ودلالاته سيدرك فوراً أن مبدعه ليس غير شاعر العربية وعبقريها المتفرد أبي الطيب المتنبي، الذي يتحفنا دائماً بنصوصه التي تفيض حكماً رائعة، وتَجارب متميزة، لم تكن لتصدر إلا من شاعر عبقري عاش الحياة بِحلوها ومُرِّها، وبطولها وعرضها، فأنتج نصوصاً خلَّدها التاريخ، وما زال النقاد حتى يومنا هذا يسهرون جرَّاها ويَختصمون، وما هذا النص سوى أحد تلك النصوص التي أبدع فيها أبو الطيب بفكره وحكمته وأسلوبه ولغته وتصويره، فأضحى من روائع الحكمة في الشعر العربي، وما هذه الأسطر إلا حوار قصير مع هذا النص العبقري، لعلنا نتمكن من أن نصل إلى شيء من أسرار تَميزه وخلوده، وأسباب تألقه وعبقريته.
يفتتح أبو الطيب هذا النص الرائع باستهلال بديع كعادته في نصوصه جَميعها، ويكشف فيه عن صفة ما يزال الناس جَميعا مشتركين فيها قديما وحديثا، فكلُّ مَن صحب هذا الزمان اهتمَّ بشأنه كما نَهتمُّ نَحن به، وعناه من أمره ما عنانا نَحن منه، فالخلق كلهم منذ القدم اهتموا بالحياة، وعشقوا هذه الدنيا، وتعلَّقوا بِها بالقدر الذي خافوا فيه من فراقها، وعلى الرغم من هذا الاهتمام بالزمان وقوة التعلُّق به، إلا أنَّهم في النهاية رحلوا عنه مُسيَّرين لا مُخيَّرين، وليت الأمر وقف على هذا، بل إنَّ كثيراً منهم قد اصطحب معه في رحيله غصَّةً وحسرةً، ورافقه في وداعه همٌّ وحزنٌ من أكدار هذه الدنيا التي لا تصفو لأحد، ولا ينقص من هذه الحقيقة أنَّ بعضهم ربَّما سرَّه الزمان أحياناً، وأفرحه قبل رحيله عنه، ولكنه في النهاية يرحل عن زمانه بالغصَّة نفسِها، والحسرةِ عينِها، وهي حقيقةٌ واضحةٌ وفكرةٌ لا ينكرها أحد، فكم من شخصٍ لَم ينل مُرادَه من الدنيا فمات بغصَّته، وكم من إنسانٍ لَم يبلغ أمله منها ففارقها بِحزنه وألَمِه، وتولَّى عنها بِهمِّه وغمِّه.
ثُمَّ يُقرِّر أبو الطيب حقيقةً أخرى من تلك الحقائق التي طالَما آمن بِها لأنه عاش ورأى وجرَّب فعرف الحقيقة من غيرها، تلك الحقيقة التي تقول بأنَّ ديدن الدهر وعادتَه أن يعطي ثُمَّ يرجع فيما يعطي، وأن يهب ثُمَّ يتراجع عن تلك الهبة، فلياليه ربَّما أحسنت الصنيع في وقتٍ ما، لكنها لا تلبث أن تُكدِّر ذلك الإحسان فلا يتم، بل يعود الدهر ليُكدِّرَه ويشوبَه بِما ينغِّصُهُ، ثُمَّ يبالغ أبو الطيب في شِدَّة كدر هذا الزمان وكثرة مآسيه بأن أكَّد بأنَّ هذا الذي أعان على الدهر كأنه لَم يرضَ بِما يصيب الشاعر من البلاء والمحن حتى أعانه عليه، وهذه مبالغةٌ فائقةٌ في وصف الزمان ووصف شرِّه وسوء حظِّ الشاعر فيه.
ويستدرك أبو الطيب في البيت الثالث استدراكا معنوياً يؤكِّد من خلاله أنَّ الزمان ليس وحده فيه الشر والسوء، بل إنَّ ذلك من طباع الخلق كذلك، والدليل على هذا أنه كلَّما أنبت الزمان قناةً رَكَّب المرء في هذه القناة سنانا، بِمعنى أنَّ الزمان إذا اُنتدب للإساءة وأُرسل لعمل الشرِّ وإحداث الكدر فإنَّ الناس بطبعهم يتسابقون في مساعدته، ويفعلون كلَّ ما بوسعهم لِمساعدته، وكأنَّ الشرَّ في الطباع مَخلوقٌ لا في الزمان؛ لأنَّ الإنسان هو الذي انتهى به شرُّ طبعه إلى تركيب السِّنان في القناة ليتوصَّل بِها إلى القتل والإفساد.
وعلى الرغم من هذه النظرة التشاؤمية للزمان والخلق وما طُبعوا عليه، مع ما في ذلك من مُخالفةٍ صريحة للمنهج الإسلامي في عرض مثل هذه الأفكار إلا أننا لا نستطيع أن نغضَّ الطرف عن الأسلوب الرائع الذي استخدمه أبو الطيب لإبراز هذه الفكرة، فقد جسَّد الزمان وجعله شخصاً يستطيع أن يُنبت قناةً، كنايةً عن الشروع في فعل الشر وإحداث السوء، لكنه على كلِّ حالٍ لا يشعر تَماماً لأيِّ شيءٍ تصلح هذه القناة، ولأيِّ أمر ٍ تُستخدم، ثُمَّ جعل الخلق بعامة بِما جُبلوا عليه من شرٍّ في الطباع كالمرء الذي يتكلَّف ليقوم بتركيب سِنانٍ في هذه القناة التي أنبتها الزمان، كنايةً عن أنه هو المسؤول الأول والمباشر عن وقوع هذا السوء والشر والفساد.
ثُمَّ يُوجِّه شاعرنا الاستثنائي توجيهاً رائعاً للخَلْق كُلِّهم يتضمَّن دعوةً للسلام والتعايش جنباً إلى جنب دون كراهيةٍ أو تعادي، وبغير قتالٍ أو حروب، فما جنى الناسُ من هذا القتال والتعادي سوى التفانِي، وفي هذا البيت الرائع يُوجِّه أبو الطيب نصيحةً أفادها من خبرته وتَجربته في هذه الحياة، وهي النهي عن المعاداة والتحاسد لأجل مُراد النفوس، ويُعلِّل ذلك بأنَّ مُراد النفوس من جاه الدنيا أقلُّ وأحقرُ من أن يُعادي بعضُنا بعضاً لأجله، وما تريده من حطامها أتفهُ من التقاتل والتفانِي لأجل ذلك.
لكنَّ أبا الطيب يستثني هنا استثناءً لِما قرَّره في دعوته السابقة التي أكَّد فيها على أهَميَّة السلام، ونبذ الكراهية والقتال والتفانِي لأجل هذه الدنيا الفانية، وذلك أنَّ الإنسان من الأفضل له أن يقابل الموت العابس بدلاً من الهوان، وأن يلاقي المنايا الكالحات عوضاً عن الذِّلة، فالحرُّ الكريم أحبُّ إليه الموت الكريه من أن يلقى ذُلاً وهوانا، وهذا الاستثناء يكشف عن اعتذار الشاعر لطلبه ما لا يحتاج إليه أنفةً من الذل والهوان، كما أنه يشي بشخصية المتنبي المفتخرة التي لا ترضى إلا بالعزة والكرامة، بالقدر الذي تأنف فيه من الذلِّ والهوان.
لقد ضمَّن أبو الطيب هذا المشهد من هذا النصِّ المتألق حِكَماً ثاقبة، ورؤىً عميقة، يصعب على شاعر بِحجم غيره من الشعراء أن يأتي بِها، فضلاً عن أن يصوغها على هذا الأسلوب الفني المتألق والصور البديعة المتميزة، ولعل المشهد الثاني من هذه الحكم الاستثنائية يكشف عن مزيد من القيم الجمالية والدلالية التي جعلت من هذا النص يبلغ مرحلة متقدمة من التألق والتميز في الحكمة وعمق التجربة وبُعد الرؤية.
- الرياض
Omar1401@gmail. com