بينما كنت أتعثر بالعامية دون أن يتنبه لي أحد في حوار صباحي بالفصحى.. شكرت في قلبي متابعتي في صغري للرسوم المتحركة بشغف، فالدبلجة بالعربية الفصحى كانت الكتف الذي استندت عليه في تجربتي الصغيرة بالتحدث بالفصحى لستين يوماً في قلب (أورقن) مع رفيقتي الأمريكية؛ تلك التي شغفها بالعربية يحتاج لمقالة أخرى.
كنا نقسم الحوار بين الإنجليزية والعربية وكثيراً ما كنا نميل لإحداها فنظلم الأخرى، إلا أننا نتنبه ونستدرك ونعدل من جديد. لم نجعل الحوارات رهينة المقهى الذي يجمعنا بل امتد لجولاتنا في المدينة. وصفت المطر كما لم أصفه من قبل، وأثنيت على شطيرة ساخنة اقتسمناها سوية بعبارات لم أتخيل يوماً أنني سأنطق بها، وحتى أنني جربت رواية طرفة عن عمد لكي لا أفوت علي رد الفعل، ولن أكتب هنا كيف كانت بالتأكيد.
رغم جمال التحدث بالفصحى، ألق العبارات وأناقة التعبير إلا أن الشعور بأنني أؤدي دوراً في مسلسل تركي كان يهاجمني بشكل غير مفهوم في البداية، هل يُعقل أن أشهد على شعور كهذا رغم أنها لغتي الأم، أياً كان وأياً كانت أسبابه ما أعرفه جيداً أنني تمنيت أن أتحدث بها لبقية حياتي.
جمعتها تلك الرغبة العميقة بتعلم العربية بمجموعة من سكان المدينة تختلف خلفياتهم الثقافية والاجتماعية وحتى أسبابهم لتعلمها. كنت أقرأ النص بالعربية وأعينهم تتابعني بشغف غريب، وكأنهم يستمعون لنص مقدس وليس لمجرد نص عادي جداً من كتاب لتعلم العربية! كنت أساعد وأقرأ وأصحح وفي كل مرة ينتهي اجتماعنا أجدني أنتمي للعربية أكثر وأستشعر جمالها،عذوبتها وقوتها كما لو كنت لم أتحدث بها يوماً، وربما حقاً لم أتحدث بها يوماً!
ناقشوا الأحداث في العالم العربي، أشبعوا الثورات العربية ركلاً وضرباً وهدهدة، عرجوا على الاقتصاد، التاريخ، المجتمع، الأدب والفن. كانوا يصارعون صعوبة اللغة بترجمة مقالات بالعربية ليجمعوا أكبر قدر ممكن من معاني الكلمات، أتذكر جيداً النظرة التي ترتسم على ملامح أحدهم حين يتحدث عن حلمه برحلة أو هجرة للشرق الأوسط وبتفاصيل دقيقة أنصت لها ولا أكتفي.
في حديث هاتفي جانبي مع والدتي التقطت رفيقتي الأمريكية عبارة صغيرة وسط الحديث: «لا تبلشين نفسك» ولمن لا يعرفها فهي تعني: لا تزعجي نفسك بعمل شئ ما أو التفكير بموضوع ما، ولم أتوقع أن عبارتي العامية ستلتصق بها وسترددها كثيراً، وبالطبع كنا نغرق في الضحك فهي تعي أن العبارة عامية جداً جداً ولا تناسب سياق الحديث بالفصحى بينما أنا أستظرف طريقة نطقها لها وكيف توظفها في مواقع مجنونة في حوارنا. وربما الأكثر طرافة هو ذلك الصباح الذي قابلتني فيه وقبل أن أسلم عليها باغتتني قائلة: «في المشمش ياخلود كل حاجة بالمشمش»، وبالطبع هذه الجملة وردت كما أخبرتني في أحد المظاهرات في القاهرة تزامناً مع أحداث مابعد الثورة إن كان مناسباً أن أقول ما بعد!
كما أتذكر جيداً في متحف فني ذهبناه معاً وكنا متعمقين قي أحد نقاشاتنا المجنونة التي لا أفهم كيف تبدأ ولا أعرف كيف تنتهي، بادرتني سيدة عربية هناك بالحديث، كأي حوار صغير يجمع عربيتين في بلد اغتراب، ولم أفهم لما كان الحوار السريع غريباً ولماذا كانت السيدة تردد علي وكأنها تتأكد: من السعودية صحيح؟ وأؤكد لها رغم الاستغراب الشديد في عينيها، لأستوعب في نهاية اليوم وقبل أن أغفو أنني كنت أتحدث بالفصحى معها بينما هي العكس! ربما هو التعود، لا أدري! أو أمر ما اختص به عقلي الباطن وتصرف هكذا دون استشارتي.
ربما لن أتحدث بالفصحى بهذا القدر مرة أخرى ولكني متأكدة سأتبسم دوماً كلما قالت والدتي: «لاتبلشين نفسك».
- بريطانيا
kimmortality@gmail.com