مع الثورات العربية صعدت الأحزاب الإسلامية لمنصة الحكم في أكثر من دولة، ومعها تصعد الحديث عن التشريعات والقوانين التي ستسن، ولأن هذه الأحزاب دينية وستفترض أنها تشرع دينيا، سيكون من المهم جدا للقارئ العربي أن يقرأ إنتاجا فكريا كُتب على خط التماس بين الدين والدولة.
ولأن الحالة العربية لم تتغير كثيرا في حسم هذا التماس، فإن قراءة كتب أنتجت في هذا الاتجاه مهما مرت عليها السنوات تظل ملحة ومطلوبة، وكتاب «تحديث الفكر الإسلامي» لعبدالمجيد الشرفي، الذي أعادت طباعته قبل عامين دار المدار الإسلامي، هو أحد مجموعة من الكتب التي يجدر بالقارئ العربي قراءتها خلال هذه المرحلة التاريخية، والتي يشتعل فيها النقاش بشكل أوضح من أي وقت مضى عن التشريع الديني.
لا ينطلق الشرفي في طرحه من الخبر، بل من المبتدأ، لا يبدأ من الصفر بل من الخط الأول، هل يجوز لنا أن نقوم بتحديث الفكر الإسلامي؟ إنه لا يفترض أن تحديث الفكر الديني مقبول من الجميع، لأنه يعي تماما أن الغالب الأعظم من المؤسسات الدينية وعلمائها لا يقبلون بالتحديث مهما أبدوا تسامحهم لأنهم يتخذون ضده موقفا جامدا لا يتغير تاريخيا.
والشرفي يستعمل مفردة التحديث لا التجديد، لأنه يؤمن أن المسألة ليست في الدعوة إلى القديم بشكل جديد فتكون الجهود مجرد تجديدا لما سبق (( ذلك لأن القضية المطروحة بحدة على الفكر الإسلامي في نظرنا هي مدى استجابته لمقتضيات الحداثة بكل تجلياتها المادية والمعنوية، والعلمية والتقنية كما الفكرية والفلسفية، علما بأن هذه الاستجابة ضرورة ملحة لا ترف ذهني )).
الكتاب عبارة عن ثلاثة محاضرات ألقاها الشرفي على منبر مؤسسة الملك عبدالعزيز للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء، ولهذا سيجد القارئ بعد كل فصل نقاشا دار على هامش المحاضرة احتفظ بشيء من طابعه الشفوي، وهذه المحاضرات لم تقتصر على مجالين هما الفقه وأصول الفقه لأن المجالات الأخرى ليست بحاجة للتحديث، بل لأن الفقه وأصوله احتل النصيب الأكبر في اهتمامات القدماء ولازال محل جدل واسع وخلاف عميق.
في مشروعية تحديث الفكر الإسلامي، هو عنوان المحاضرة الأولى التي يؤكد فيها الشرفي سعيه إلى الاستفادة مما توصل إليه الفلاسفة والمؤرخون وعلماء الاجتماع والنفس، والانتروبولوجيا، وعلماء اللسانيات، لتطبيقه على الفكر الإسلامي، وهو يستعمل الفكر أو الخطاب الإسلامي كمترادفين، منبها القارئ إلى أن الخطاب هو أخيرا نتاج هذا الفكر، متجليا في التفسير والحديث وعلم الكلام والفقه والأصول والتصوف وحتى الأخلاق.
النص والإجماع، هما الحجتان التي يرى الشرفي أن لابد من طرحهما على بساط الدرس في مشروعية تحديث الفكر الإسلامي، فيلفت نظر القارئ إلى (( سواء كانت حجة الإجماع مبنية على نصوص القرآن أو الحديث، ففي نهاية الأمر نلاحظ ظاهرة هامة جداً، تكمن في الانزلاق الذي حصل من اعتبار إجماع أمة المسلمين إلى إجماع العلماء بالإضافة إلى الصحابة، فوقع بذلك تقليص مفهوم الأمة إلى مفهوم هذه الفئة)
يركز الباحث على أن القرآن يخاطب كل فرد بصفته مسؤول في حد ذاته أمام الله، وأمام ضميره لا أمام المجتمع (ذلك أن تربية الضمير المستقيم ليست موكولة لا إلى الدولة، لكي تصون هذه الأحكام، ولا إلى الفقهاء، بل هي موكولة إلى الأمة الإسلامية، وعلى أساس الحرية الذاتية والمسؤولية الفردية)، يكرر الشرفي التأكيد على فكرته، من أن تربية الضمير المستقيم أهم من الانسجام الاجتماعي.
المحاضرة الثانية هي أصول الفقه، وفيها يطرح الباحث أن كتب الأصول تنحصر بين محاولتي التوفيق أو الترجيح، لأن هذه الأصول قدمت بدون النظر إلى ما طرأ عليها من تطور في الفترة التي أنتجت فيها، مما أدى إلى فصل بين اختلافات الفقهاء وبين السياق التاريخي لها.
يعتبر الشرفي ست مصادرات قامت عليها أصول الفقه، والمصادرة تعني الأمور التي لا تقبل النقاش بالنسبة إلى الضمير الإسلامي التقليدي، ومن ضمن هذه المصادرات، أن جيمع أعمال الإنسان ومؤسساته الاجتماعية لا تجد مشروعيتها إلا بما يضفيه عليها الدين من معنى، وأن العبرة في عموم اللفظ لا بخصوص السبب، والتمييز بين مجالي الفقه والعقيدة، وأن ما يستنبط هو حكم الله لا أحكاماً بشرية، وأن الشرع يحكم بالظاهر، وإذا ترجمت مصادرة الحكم بالظاهر إلى لغة حديثة فستعني أن العبرة عند الأصوليين ما يحقق الاندماج الاجتماعي وذلك بظاهر العبادات والمعاملات لا بمحتواها، وحكم الردة هو أوضح الأمثلة.
ينبه الباحث أن مثل قضية الإرث التي تعتبر من أحكام القرآن قطعية الدلالة، يوجد في المدونة الفقهية حالات يستحيل فيها تطبيق الآية، ما يعني أن الفقهاء اختلفوا حتى في هذا «المعلوم من الدين بالضرورة»، وفي محاضرة الفقه الإسلامي الأخيرة في الكتاب، يعرج فيها على أحكام صيام رمضان وحد السرقة كأمثلة لانزياح تأويل الفقهاء واستنباطهم عن مقاصد القرآن، وحتى عن صريح منطوقه، ويذكر الشرفي إلى نقطة التحول التي حدثت في القرن 16 في الخلافة العثمانية في عهد سليمان القانوني بأنه أول من سن قوانين ملزمة تستند إلى الفقه، بعد أن رفض مالك وأبو حنيفة فكرة الإلزام في الفقه في الخلافة العباسية بالقرن الثامن.
(كيف أتصور هذا المسلم الحداثي في مجال العبادات؟.. أعتبر أن العبرة فيما يخص سلوك المسلم وتعبده ليست بظاهر العبادة، وإنما بما يعتقده المرء أن من الواجب عليه أن يقوم به، أنا مع الفضيلة الذاتية والمسؤولية الفردية ومع تربية الضمير المستقيم، وإذ ذاك لا يهم عندي أن يختلف المسلمون في هذا المستوى، هاجسي ليس هاجس الفقهاء القدامى).
lamia.swm@gmail.com
- الرياض