ألقى الزميل الدكتور إبراهيم بن عبد الرحمن التركي ورقة لملتقى (التحولات الثقافية في المملكة العربية السعودية) بنادي القصيم الأدبي في 9/ 11-11-1433هـ بعنوان:(شهادةٌ على التحوُّلات الثقافية).. وفيما يلي جوانب من الورقة:
تمهيد
يدرك المتابعون حجم التغير الثقافي الذي مررنا به خلال ثلاثة عقود ممتلئةٍ بضجيج، حجب الرؤية المجردة، ولم يكن واحدُنا خلالها قادرًا على قراءة المسافاتِ الحقيقية، ولا تقدير الأبعادِ والأحجام بأشكالها الطبيعية؛ بحكم توالي المتغيرات، وعدم استقرار الأوضاع الثقافية، وظهور مؤشراتٍ توحي بتبدل المعادلات السائدة؛ فعرفنا من جُهل، وقاد من قيد، وتسنّم من توارى، واختلطت الأفهام والمفاهيم، ولبس بعضُنا لباسًا ليس له؛ فبدا الثوب أكبر من قياسات صاحبه، وبات الظلّ موطنَ المتفرجين، وفيهم مَنْ هو أقدر وأجدر من الساكنين تحت الشمس. ودون الدخول في الأسماء فإن الساحة الثقافية قد صارت ميدانًا مفتوحًا للجميع، بمَنْ فيهم غيرُ المتخصصين الذين صنعوا لهم جماهير داخل المسرح الثقافي، وباتوا مراجعَ تُستأمر وتُستشار، وعزف كثيرٌ من ذوي الحضور الثقافي عن الدخول في الجدل الدائر حول الهُوية والحداثة والإبداع.
وللمقارنة بحجم التحولات فإن المعادلة تتبدل اليوم بشكلٍ متسارعٍ؛ فالواجهة اتسعت، والمهمشون عادوا، والمساحات تكافأت بين المنابر الرسمية والشعبية، والتقليدية والرقمية، ولم يعد أحدٌ يستجدي ظهورًا، ولا منعَ يطول كاتبًا أو كتابًا، وهو ما آذنَ بحركة ثقافية توشك على قلب المعادلة النمطية التي سادت، وتوشك أن تبيد، وهي ظاهرة قد تبدو إيجابية لكنها محاطة بالسلبيات.
غاب علماءٌ فلم ندرِ عنهم، ودُفنت بحوثٌ فلم نأبه بها، وتراجع التعليم فما زدنا على إضافة انكفاء، وتطور العالم من حولنا فما وعينا غير مزيد ارتماء، وصدقنا لغة التصنيف والتصنيم، وصدرنا وسائط الوعظ ووسطاء الإنشاء، ونسينا الثقافة الجادة؛ فكانت الرواية الغواية، والشعر الشعير، والمنبرُ العائم والحكّاؤون الممثلون مركز التحكم، وما كان لهم شأنٌ قَبْلي أو استشرافٌ بَعْدي.
المتغيرات والمظاهر
يرجع بدءُ التحوُّل الثقافي الحاد لعامي 1979 و1980م؛ حيث تصدرت ظاهرتا السلطة الثيوقراطية المتمثلة في ثورة الخميني وحركة جهيمان، وبالرغم من سيطرة الأولى فإنها لم تعنِ لنا الكثير على الصعيد الثقافي إلا بعد سحق الثانية التي دُفنت لتلد - برغبة رسمية وشعبيةٍ - نموذجًا رديفًا، لم يختلف عن فكر الحركة السلفية الجهادية إلا في مهادنته انسجامًا مع اقتناع الفكر السلفي الموالي لمبادئَ الهدوء والطاعة السياسية؛ فيما قضى بأحكامٍ لم تكن مألوفة قبله، وبخاصة في شؤون الثقافة والإعلام، وبرز الصراع مع مصدري الثورة الفارسية؛ ما خلق فوارق الانتماءات المذهبية التي لم تكن ظاهرة على السطح قبل ذلك، وجاءت معركة الحداثة؛ لتضرب بنية التكوين الفكري الذي ظُنّ ملتئمًا، كما أعلى غزو الكويت وقيادة المرأة السيارة حجمَ الخلاف من جانب، وأثار مزيدًا من الصخب، وبينها وخلالها كانت أشرطة الكاسيت ومنابر المساجد تمثل النموذج الجديد البديل عن المنابر الثقافية المعتادة كالأندية والمجلات والملاحق الأدبية، وظل الحال على وضعه حتى بعد بداية القرن الواحد والعشرين الذي شهد أحداث الحادي عشر من أيلول، وما تلاها من تداعياتٍ مسَّت الشأن الثقافي بشكل مباشر، ثم بدأت سيطرة التيار الأحادي تخف تدريجيًا؛ يقابلها انفتاحٌ وتسامح من جانب، وأرضية ممدودة للصراع من جانبٍ آخر.
ويمكن رصد أهم مظاهر المتغيرات في هذه الشهادة بنهج الرقابة الإعلامية على الكتب والصحف؛ فقد كان الكتاب يُمنع لعنوانه، والكاتب يوقف أو يشوَّه موضوعه بالحذف والإضافة، والمحررون يُساءَلون من الرقيب الرسمي والرقيب الشارعي لمجرد اختلاف في التأويل.
وللمقارنة فقط؛ فإن القصيدة التي أقالت وزيرًا ورئيس تحرير وجعلت الصحيفة - على امتداد أكثر من عشرة أعوام - تدقق في المفردة قبل السطر وفي العبارة ضمن الشطر، وتحجب نصوصًا وتُهمش ثقافة، هي نفسها التي تبنت إصدار مجلة ثقافية ملحقة مع الجريدة ومستقلة عنها، ومنحت مدير تحريرها صلاحياتٍ مطلقة في النشر؛ حتى إن رئيس التحرير يقرؤها بعد الصدور، ولا يراقب فيها حرفًا واحدًا.
وللمفارقة؛ فهذا الرئيس هو نفسه مَنْ غاب بسبب القصيدة المشار إليها.
ماذا عن الغد
لا يكفي رصد ظاهرة التغير الآنية والمتوقعة، أو التهليل لها والتفاؤل بها ما لم نكن مستعدين للنقلة القادمة التي لن تأخذ طويل وقت حتى تتبدى ملامحها، وتفرض على الساحة شخوصًا جديدة وطرحًا مختلفًا واقتناعاتٍ كانت مسجاة بانتظار انبعاثها بعد أكثر من ثلاثة عقودٍ من السبات اتكاءً على الوعي الذي يفترض أن يتهيأ المجتمع لرحلة إعادة التوازن لبنيته، وعدم الارتهان لمعلقات الوهم التي رفعت الصوت، وامتلكت الصيت، وأغلقت منافذ القرار دون أن نُرتهن لأحادية أخرى تقرر مشروعها التسلطي ولو تغلف بمصطلحات التنوير واللبرلة والدمقرطة.ولعل مشكلة المشروعات الثقافية ألا آباءَ لها ولا وسائطَ تقود الطريق نحوها ولها؛ فنسير أحيانًا ببركة التهوين والتهويم؛ إذ ما سيأتي سيأتي - كما يقول المثل الكوني - لكن مسؤولية الأجيال القادمة تفترض إعدادًا واستعدادًا يتواءم مع ما هو متوقعٌ في القريب؛ كي لا تتشابه مرحلة مضت بمرحلة تجيء؛ فيكون التحولُ عاصفًا غير عاصم.
ويظل التخوف الأكبر أن ترث تياراتٌ إرث اضطهادها أو إلغائها أو حتى تحجيمها حين تجد نفسها قادرة على الرد بالمثل؛ فنبقى داخل دوائر متداخلة من الصراعات الثقافية المتكئة على سلطوية الانتماء السياسي، والإسلامويون - قبل سواهم - مطالبون بوعي التبدلات القادمة التي ستطول مشروعهم ومُشرّعيهم؛ فالمكتوون بإقصائيتهم قد يجدون في غد التغيير ما يجعلهم استعدائيين واستعلائيين ضدهم حين يأذن لهم الظرف السياسي الذي يحمل نذرًا متبدلة.
ومن استقراء المعطيات الإقليمية والمحلية ومتابعة دوائر الإعلام الرقمي فإن الغلبة لن تكون لتيار، وهو ما نتمناه؛ ما يعطي التوازن والاتزان معنًى في المرحلة القريبة القادمة.
- تم رصد بعض التحولات «سيرة كرسي ثقافي» لصاحب الورقة ونُشرت في الثقافية على امتداد ثلاثين حلقة 2011-2012م، وسوف تستكمل في كتاب بحول الله .