حينما انتقلت من جدة إلى الرياض وانضممت إلى هيئة التدريس في قسم اللغة العربية صرت أسمع من الأساتذة عن ثلاثة أسماء كانت في الدراسات العليا ماجستير ودكتوراه، وكان من بينهم فاطمة الوهيبي التي كان اسمها يتردد على كل لسان موصوفة بأنها باحثة متميزة، وكان كل واحد يشير إلى أنها مرت عليه في مادة من المواد فيما بين الجامعية والماجستير، ويظل القول عنها وعن طالبين آخرين بما أنهم الأبرز والأمثل. وفي يوم جاءني الأستاذ المسؤول عن إعداد برنامج الدكتوراه وقال لي بلهجة صارمة: أنت مطلوب لتدريس مادة (نظريات النقد المعاصر) للطالبات، فقلت له: ولماذا أنا مطلوب بهذه الصيغة، وهل ستتلوها بصيغة: حياً أو مأسورا..؟ فقال لي: لا تمزح.. إن الذي وضع الجدول هو الطالبة نفسها، وهي بنت خطيرة وقولها قطعي ولا يرد. هنا زاد عجبي وزادت استفهاماتي.. حتى فهمت منه أن الجدول المطلوب هو للطالبة فاطمة الوهيبي وأنها هي من اختارت المدرسين فعلاً، وكنت أعرف من قبل عن سمعة الباحثة فاطمة، ولكن الأستاذ زادني في القول عن أهمية هذه الباحثة مرددا القول إنه هو ليس في خيار من أمره في وضع الجدول وأنه لايملك أن يجابه بحَّاثة بهذا المقام وهذه المنزلة في القسم بين كافة الزملاء. أخذت المادة وعلى قول العرب (حبا وكرامة).. وصارت المحاضرات حيث رأيت بعيني كم هي باحثة راقية وجادة والدرس معها يمر قويا وعميقا ومثريا، ولم أجد قط مشكلة في عرض أدق النظريات أمامها ولا في الدخول إلى أدق وأعوص المفهومات، وكانت تسير مع المحاضرات بسرعة عالية وتسبق رغباتي في الإحالات حيث تحضر معها مراجع متعددة، ولا تكل أمام أي مقترح بالعودة إلى مظان البحث ومغابه العويصة.
ثم مرت الأيام وصرت المشرف على أطروحاتها، وكنت مرة مع الصديق سعد مصلوح في الكويت وكنت أحدثه عن فاطمة وأقول له إنها ستتصل به لأن له بحثا عن القرطاجني والتخييل وهو موضوع ذو صلة ببحثها، وصرت أذكر له تميزها وحدة ذكائها وعمقها، وأقول له: كم أنا محظوظ إذ أشرف عليها ولا أجدني محتاجا إلى حثها ودفعها للعمل والبحث والمتابعة، وهنا التفت إليّ سعد بوجهه الصادق الصدوق الذي عرفته على مدى سنين وقال: يا أبا غادة أنت لا تختار سوى النادرين، وعندها قلت له فورا وبلا تردد: يا حبيبي، هي التي اختارتني وهي التي تقرر وتحسم.
ضحك سعد، وفي قلبه إحساس بأن الطالبة هذه ليست كأي أحد، وأنها نموذج رفيع من الباحثين والباحثات، وأن من تعامل معها علميا وبحثيا سيجد أنه أمام باحثة لا يُشق لها غبار، وأنها تسبق كل العدادات وحاسبات السرعة. تكرر هذا مع أساتذة مثل: محمد مفتاح، وصلاح فضل؛ حيث جرى مرارا الحديث عن فاطمة وكان كل واحد منهما يهنئني عليها، وكان يحق لي أن أسمع وأفرح لها ولجيل الباحثين والباحثات في جامعاتنا. وفي مرة، وأثناء بحثها في موضوع نظرية المعنى عند القرطاجني، تبادر إلى سمعها نتف من أخبار بأن في المغرب رسائل علمية عن حازم القرطاجني وكانت الأخبار شحيحة إذ لا شيء يساعد على معرفة سبيل الكشف عن هذه الرسائل، إذ لا أسماء ولا عناوين ولا مؤشرات ولا حتى في أي جامعة، ولم يكن لدي أنا أي مؤشر يساعد على كشف الأمر، ومرت أيام لم تطل حتى هاتفتني فاطمة وسردت علي معلومات دقيقة وشاملة عن تلك الرسائل في الجامعات المغربية، وهنا سألتها: كيف وصلت إلى هذه المعلومات، وهالني أنني اكتشفت أنها تعرفت على الأمور كلها وهي جالسة في بيتها ولم تغادر عتبة الدار، وكل ذلك تم عبر استخدام الهاتف بطريقة عملية فيها إصرار وكدح وصبر وبصير، وكان ذلك قبل زمن الإنترنت والجوال، والذي فعلته فاطمة أنها طلبت رقم الاستعلامات الهاتفية في دولة المغرب ثم أخذت من ذلك المكتب أرقام هواتف الجامعات المغربية واحدة واحدة، ثم بدأت بالاتصالات مكررة المحاولات مع كل حالة إخفاق وتمنُّع وتأفُّف نعرفه عن عمال السنترالات، ومع الجهد والمثابرة تمكنت من معرفة هاتف كل قسم من أقسام اللغة العربية وكليات الآداب في المغرب، ثم ركزت في اتصالاتها على الأقسام والكليات يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، وكلما رد عليها شخص بقوله: لا أعرف ولا جواب عندي تركته إلى يوم آخر لتعاود الاتصال، وتطلب رئيس القسم ثم تطلب أي أستاذ في القسم، عبر هذه المحاولات والمثابرات توصلت في أيام إلى معرفة كل الرسائل المناقشة والمسجلة في المغرب عن القرطاجني، وعلى مدى ما مر من سنوات، وعرفت مواضيع الرسائل واطمأنت أن ليس من بينها رسالة في الموضوع الذي تزمع بحثه على وجه التحديد، وتأكدت من فرادة موضوعها وجدته، ومضت مطمئنة وراسخة الخطى وهي على يقين من كل خطواتها.
كانت فاطمة تشرح لي ذلك على الهاتف وأنا أكاد أذرف الدمعة من الفرح بهذه الباحثة الفذة، وأحمد الله أن أشرفت على باحثة لا أتعب معها، بل إنني أكاد أطلب منها أن تخفف على نفسها وذلك من فرط حرصها وتفانيها في مهمتها وكونها الرقيبة على نفسها وعلى عملها. وحينما انعقدت لجنة المناقشة وهممت بتسليم الأدوار للمناقشين قدمت شهادتي في حق فاطمة وقلت لهم وللحضور جميعاً في حديث مسجل ومشهود، قلت لهم: إن فاطمة قد أشرفت على نفسها ولم أشرف عليها، لقد كانت الوصي على ذاتها والرقيب على عملها، وقلت إنني فعلاً أحسست أن فاطمة لم تكن بحاجة إلى إشراف، وما والله جاملت في ذلك وما قلته إلا عن حق وعن تجربة. أقول لكم: إنها فاطمة الوهيبي وكفى.