قد لا أكون مبالغاً إذا قلتُ إنّ المعركة التي دارت رحاها بين د. غازي القصيبي - رحمه الله - وأصحابِ الفضيلة، مشايخ الصحوة (د. الحوالي، د. العمر، د. القرني ود. العودة)، من أهمّ المعارك الفكرية في بلادنا على الإطلاق؛ لأمرين:
الأول: أنّ تلك المعركة نشبت بين الطرفين في مرحلة تاريخية حرجة، مرَّت بها بلادنا، بل المنطقة بشكلٍ عام؛ ولذلك أخذت - دون المعارك الأخرى - أبعاداً سياسية، وفكرية، ونفسية، واجتماعية، واسعة للغاية، وحظيت بمتابعة عددٍ كبيرٍ من المفكرين والمثقفين خارج حدود المملكة، بل خارج حدود منطقة الخليج، وما زال بعضهم يستحضر تفاصيلها الدقيقة، كما لو كانت ابنة البارحة.
الآخر: أنّ آثار تلك المعركة ما زالت قائمة إلى اليوم، لا في نفسية وذهنية أطرافها فحسب، لكن في جيل كامل (أو جيلين) من أبناء هذا الوطن الجميل، وما زالت موادّها تفعل في بعضنا فعلتها الغريبة، وتبرز على السطح عند التعرُّض لأيٍّ من أطرافها، أو الأطراف الجدد، أو لأي من القضايا الاجتماعية الساخنة.
لذلك رأيتُ أنْ أقدّم - في هذه المقالة - قراءة سريعة لتلك المعركة، يمكن أنْ نفهم بها خلفيات المعارك التي تشتعل في ساحتنا اليوم، والتي لا تختلف كثيراً عن تلك المعركة، وإن بدت أقلّ منها مساحةً، وأضعفَ جُنداً..
إنّ تلك المعركة التي وقعت بين الطرفَيْن لم تنفجر من اللاشيء، ولم تكن لحظةً منبتةً بلا إرهاصات ولا نتائج - كما قد يتصور بعضهم - وإنما كانت واقعةً ثقافيةً ثقيلة، شَغَلت إرهاصاتها عشرين عاماً تقريباً (1970-1989)، وتجاوزت نتائجها عشرين عاماً أخرى (1991-2012)، وعليه فإنّ الحديث عنها هو حديثٌ - بالضرورة - عن نصف قرن تقريباً من الصراع البارز والمستتر، وهو - بالضرورة - حديثٌ عن جيل أو جيلين من أبناء هذا الوطن، رضوا بأن يمثلوا الدورين معاً: دور الجلاد ودور الضحية.. ولم يجدوا غضاضة في أن يؤجلوا مشاريعهم المصيرية من أجل الفوز بحفنة من الضوء والصخب، وهو - فوق ما سبق - حديثٌ عن تغيرات واسعة، شهدتها بلادنا، والمنطقة العربية بصفة عامة.. فإذا زينّا لأنفسنا تجاوزَ واقعةٍ بهذا الحجم فعند أيّ الوقائع يمكن أنْ نوقفَ مطايانا ونتحدث؟ وإذا هونّا من نتائجها الصعبة والمخيفة، وتحرّجنا من بسط تفاصيلها، فأيّ النتائج يمكن أنْ نقدّر وأن نحترم؟ وأيّها يكون جديراً بالمشارطِ والأشعّة؟
لقد كانت واقعةً ثقافية ممتدة، تفرّجتْ على فصولها أطرافٌ من الخارج والداخل، وظلت - على امتداد الزمن - حيةً في العقول وفي النفوس؛ لذا وجدتني مضطراً إلى الاهتمام بها؛ كونها جزءًا من اشتغالي على (الواقعة الثقافية في المملكة العربية السعودية)، ودرساً مهمّاً؛ لما نتفيأ ظلاله اليوم، من خصومات سُفكت على قدميها الموضوعيةُ والإنصاف، وضُيّعت في رُدّهاتها المروءة، والشرف، ومورست فيها أساليبُ دنيئة، كاستعداء السلطة، والتكثُّر من الناس، وليّ أعناق الحقائق، والاتهام المطلق، والتعميم البغيض؛ الأمر الذي يعطي مؤشِّراً أولياً - وربما عميقاً - على أنّ مشهدَنا الثقافيّ (وإنْ تظاهر بالتماسك) مهددٌ من الداخل، منهكٌ بأعراض وأمراض لا حدَّ لها، وهو ما يجعله - من وجهة نظري على الأقلّ - أضعفَ من أنْ يواكبَ مسيرة التنمية الجديدة، فضلاً عن أنْ يتصدى - كما ينبغي - للخطر الأكبر، الذي يُحدِق بالمنطقة كلِّها.
لا أنكر هنا أهمية التنوّع، ولا حاجتنا الماسّة إليه، ولكنني أفرِّق بين الاختلاف والخلاف، وبين التدافع المشروع والتدافع الممنوع، وبين التعدّد والتعدّدية، وبين الحوار المسطّح والروح الحوارية، وأفرِّق أيضاً بين معالجة علمية هادئة، وأخرى مشتعلة، تُدشّن بالشخصنة، وتُوجه - على هيئة طلقات نارية - إلى مَقَاتِل في ذواتٍ أو قيمٍ أو أشياء.
أتابعُ صحفَنا كلّ يوم، وما تيسَّر لي من المواقع الإلكترونية، وأطلُّ من خلال حسابيّ في (الفيس) و(تويتر) على الحراك الجديد، فأجد ما يؤلمني، ويستفزّني، ويرهق أعصابي، ويجعلني مختلاً في اللحظة العاقلة، عاجزاً حتى عن إقناع ذاتي بمستقبل ثقافي مشرق، أعيش فيه - مع الأجيال القادمة - في بيئة ربيعية واسعة، تشكِّل زهورُها المختلفة لوحةً أسطوريةً جميلة، وتكوِّنُ باختلاف الألحان والألوان والأشكال جنةً من أجمل جنان الدنيا.
في ساحتنا (التي تُوصَفُ اليومَ بالوعي) يُمارس التكفيرُ سراً وعلانية، تحت أسماء حقيقية وأخرى مستعارة، وفي ساحتنا هذه ينشط الاتهامُ بالخيانة وبما وراء الخيانة، وتلوك الألسنةُ إشاعاتٍ مركّبة، يصبح من الصعب - في بعض حلقاتها - متابعةُ الأطراف، أو التثبتُ من المصادر.. كلّ هذا يُمارَس علينا أو من حولنا، تحت شعارات برّاقة، من مثل: (حماية جناب العقيدة)، و(الحفاظ على اللحمة الوطنية)، و(حرية الرأي)، و(حرية التعبير)، و(الحوار)، وما إليها...
ما زال بعضُ طلبة العلم يصنع التهمةَ ضدّ بعضِ رموزنا الثقافية (والدينية أيضاً)، ويعلّبها بآياتٍ من الذكر الحكيم، ثم يرسلها في الآفاق، يرسلها وهو يعلم أنها ستكبر مع الأيام والناس، وستصبح تهماً لا حدّ لها، تبدأ بالتفسيق ولا تنتهي حتى بالطرد من هذا الدين الفسيح..
وفي المقابل ما زال بعضُ مثقفينا يعيش بعقليةِ القطيع والرجيع، يمارس استفزازَ الناس في عقيدتهم وشعائرهم، ولا يجد غضاضةً في أن يسيء إلى عالِم معتبر، أو داعية مسموع، أمضيا الوقتَ كله في خدمة كتاب الله، وسُنّة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، ولا يجد بأساً في أن يجعلهما - بتوقيع من قلمه - عدوين لهذا الوطن، خارجَيْن على ولاة أمره، وربما ثمرتين من ثمرات (تورا بورا)!!
وبين هذا الطرف وذاك شبابٌ وشابات لم يُدرّبوا على الاستقلال فضلاً عن (الاستقلالية)، ولم يُهيؤوا للمستقبل كما ينبغي، اتخذتهم الأطرافُ المتناحرةُ سهاماً بشريةً ودروعاً، أو ربما صدى، تزداد به تألقاً وبريقاً.
بهذه المعارك المفلسة يشُغَلُ جيلٌ بأكمله اليوم كما شُغِلَ جيلٌ كامل بالأمس، وصار الواحد منا يتخيّل نفسَه في ميدان قتال، وهو ينام ملءَ عينيه على سرير وثير، في بلد آمن، تجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيء.
إنني حين توجهتُ إلى تلك المعركة أردتُ أنْ أفهم أكثر وأكثر المعارك التي تدور اليوم بيننا وبيننا، وحين قاربتُها كانت غايتي أنْ نعيَ أو نزداد وعياً، فنمسكَ ما تبقى من أوقاتنا؛ لنصرفه على تنمية ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا، في هذا الوطن الجميل.
تلك المعركة لم تمت بعد، هي حية اليوم، لكن بين أطراف جديدة، ووجوه جديدة، وأتباع جدد، وإن لم نفهم تفاصيلَ تلك المعركة، ونعايشْ فصولها، فلن نفهم معارك هذه الأيام، وستمضي بنا الحياة كما مضت بالذين من قبلنا؛ لنجد أنفسنا بعد عشرين عاماً - كما هي اليوم - غارقةً إلى أذنيها في حراك لا يخلّف إلا السكون، ومسترسلةً بحماس في مباراة حاسمة، لكنها خارجَ حدود المستطيل الأخضر، بل خارج أسوار الملعب!!
لقد مات د. غازي القصيبي - رحمه الله -، ولم يمت كرهه في بعضِ النفوس، رحل عنا وما زالتْ ألسنٌ تتشفى منه وقلوب، وما فتئت نفوسٌ مهترئة تبارك موته والرحيل كما تبارك المولود الجديد..
لقد قدَّم القصيبي لوطنه وأمته الكثير والكثير، ورغم ذلك كلّه لم تتلطف عليه قلوبُ بعضهم، ولقد تألمتُ حين رأيت أحد طلاب العلم يدعو عليه في يوم دفنه، وازددتُ تألماً حين استمعتُ إلى آخرَ في برنامجٍ تلفزيوني يحذر من التورّط في مدحه، ويختم كلمته الطويلة دون أن يختصه بدعوة، ولو على سبيل المجاملة.
وفي الضفة الأخرى تراجع بعض مشايخ الصحوة عن اللغة الحادة التي كانوا يستعملونها في التسعينيات، وانشغلوا بما هو أغنى وأقنى، وانخرطوا في مشاريع إنسانية كبيرة، ورغم ذلك كله ما زال بعض مثقفينا يجدون في أنفسهم عليهم موجدةً وحريقاً، وما زال بعضهم يعيِّرهم ببعض ماضيهم، ويحرص على أن يصدّ الناسَ عنهم؛ كونهم - على حدّ وصفه - يمارسون التقيّة والتلوّن والخداع!!
هدأت دوافعُ تلك المعركة - بعد أمّة - ولم تهدأ المعركة، وتصالح الأقطاب فلم يقبل الأتباعُ صلحَهم ولا صلاحَهم، وهذا ما أخافه اليوم وأخافه في الغد؛ فالمعركة التي نشهد حلقاتها اليوم بين الإسلاميين والليبراليين، أو بين الدعاة والمثقفين، ستهدأ بين الأقطاب يوماً من الأيام، لكنها لن تهدأ في التفاصيل، سيظلُّ الشيطان ينفخ فيها ويذكيها، وسنظلُّ نخسر كلّ حين أطرافاً منّا وطاقاتٍ وأنْفُسَاً..
هي محاولةٌ من مستفَزّ محزون، أهديها لأبناء هذا الجيل، والأجيال القادمة، وأرجو أنْ يكتبَ اللهُ لها النجاحَ - ولو بعد حين -.
Alrafai16@hotmail.com
الرياض