كارثتي الخاصة أنني في تنقلاتي بين سنوات الدراسة كنت شديدة الوعي بمناهجها، وعندما خرجت إلى الحياة العامة اختلط منهج البحث الدراسي بأسلوب تشكل الرؤية الثقافية فلا مناص..
والكارثة في ذلك أن الدراسة كانت تنتهج أسلوب التقصي التاريخي، ووضع الظاهرة المفردة في سياق كامل من الظواهر المرتبة ترتيبًا تاريخيًا وفقًا لأسبقية الأحداث فما يليها.. مثلاً لم ندرس المتنبي كشاعر عبقري مخيف معزولاً عن البيئة والظرف والعصر، وإنما بدأنا دراسته بعد أن قطعنا إليه دراسة عصر سابق لعصره ثم ما تلاه..، هكذا مثلاً وجدتني أحب شاعرًا مثل محمد الثبيتي باتكاءاته الجميلة على التراث، لكنني لم أتوفر عليه فورًا، بل ذهبت إلى ما فاتني قبل أن أولد، ربَّما لخمسين سنة أو ستين وما يزيد، بدأت بدراسة محمود حسن إسماعيل ومحاولاته التجديدية، (كان بإمكاني ألا أبتعد عن شاعر مثل أمل دنقل) لكن إسماعيل ألقى بي إلى محمود سامي البارودي في امتداد تاريخي باتجاه الجذور أكثر بعدًا، ولا بأس فكثير من شعره أعرفه، ومع إسماعيل صادفت حسن كامل الصيرفي، وأسلماني إلى جيل من الشباب في بداية تجاربهم كالبياتي اللاجئ إلى مصر وعبد الصبور وحجازي، وكبرت معهم عبر أعمالهم إلى أن توفي الله البياتي وصلاح عبد الصبور وسافر حجازي، فتعلقت بالرائع أمل دنقل والظروف التاريخية والاجتماعية التي شحذته بكل تلك الثورة، ثم تفرغت للثبيتي بعد أن قطعت إليه رحلة داخلية مع العواد والفقي وبعدهما محمد العلي ومسافر وعبد الكريم العودة والصيخان والحربي وخديجة العمري وغيرهم كثيرون، ومع هؤلاء كوكبة تزيد وضاءة هذا الفن في ذاك الزمن مثل أدونيس وبلند الحيدري من فترة، أو سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر من فترة أخرى، أو عفيفي مطر وأمل دنقل من أرض أخرى وزمن آخر، ثم أعكف على الثبيتي وأعرف آنذاك لماذا أحببته، ولماذا أنا الوحيدة القادرة على الحرب إلى جانبه على صفحات التاريخ، وما علينا من الأمثلة الآن فما كنت أقوله: إن السياق التاريخي والرؤية البانورامية الشاملة هما مشكلتي الآن التي تظهرني مختلفة عن جمع من الآخرين المختلفين، إذ أبدًا وبداخلي يقين أن الجميع يختلفون معي، ولا حيلة.
الربيع العربي - كما أسموه- والثورات العربية، انتكاسة مروعة وإشارة إلى تخلف مبين، خرج الناس لرفع شعارات الثورة عليه فغرقوا فيه، انتفاضات لا تشير إلى بزوغ الوعي، بل إلى غيابه الأخير، غير أنني أراني بدأت بحكم قبل أن أفنّد ما يستند إليه، وإذن أعود إلى مناهج التعليم في بداية أخرى.
أولاً: ما أعرفه أن الإِنسان كلَّما ارتقى وازداد وعيًا وثقافة اعتمد على لغة التفاهم والنقاش والحوار والإقناع أو الاقتناع، لا أظن أن اثنين من أساتذة جامعة راقية وعريقة يشتبكان بالسواعد والعضلات في النقاش حد تجريح الوجوه وتمزيق الملابس أو الإصابة والقتل، الجهلاء والأغبياء وحدهم يعتمدون على العضلات والسواعد ويستعينون بالعصي والعقال.
وربيعنا العربي لم تشهد معاركه إلا استعراض القوة والعضلات والاستعانة بالتدمير والرصاص، وإلا ما تخلف عنه هذا الكم من الشهداء كما أطلقوا على القتلى..
خرجت الشعوب تطالب -بالقوة والضغط- بتحسين الأوضاع الاجتماعية من خلال تحسين الدخل الفردي، ملأوا الشوارع والميادين وأعلنوا أن عنادهم حتَّى الموت، فتصدى لهم بالمثل أصحاب المصالح، كان من الممكن أن يدوّنوا هذه المطالب في ورقة واحدة فترد الحكومات بورقة مماثلة تحمل القرارات، لا أضن على الناس بالمطالب فهي مشروعة وإنما أقول: إن طريقة التعبير عنها خالية من أي وعي أو ثقافة أو حكمة، طريقة غوغائية لا تناسب عصور الظلام، وبالمقابل رد الطرف الآخر بالرصاص والقتال والضرب حتَّى الموت.. هل يشير هذا الموقف إلى أقل درجة من الوعي؟
ثانيًا: نجحت الثورات، وما خرج من أجله الغوغاء تحقق نقيضه، ازداد الفقير فقرًا وبددت البلطجة أمن الهادئ وروّعت الحوادث قلوب المسالمين، انهار الاقتصاد فضاع الكفاف، والسبب عناد الغباء في مواجهة عناد الجهل.. ولن أتوقف هنا طويلاً لأنَّه ليس الموضوع.
القاعدة: لا تحاول أن تصلح شيئًا في عصر فاسد، بمعنى أن العصر إن كان فقيرًا ومريضًا وعاجزًا عن العمل وفاقدًا لأبسط درجات الوعي فلا تتوقع منه حبة ضوء في مجال من المجالات، ليس هناك زمن قادر على أن يعطي أفضل مما يعطيه، إذ يكاد ذلك الزمن أن يشكل سياقًا واحدًا تتسق بداخله كل الجزيئات، سموًا أو انحطاطًا، هنا ربَّما ندرك أن الربيع العربي قد جاء في غير أوانه ودون مناخ صالح يجعله ينتج ورودًا بدلاً من الشوك، ثورة دون وعي تساوي انتكاسة الألف عام.
هل بدأت تتضح أولى خطواتي إلى الخوض في موضوع ليس هو كل ما سبق؟، وهل على أن اعتذر؟
الموضوع إذن بشكل مباشر هو «ثقافتنا العربية المعاصرة، كيف هي وإلى أين تتجه، ومفهوم أن دعوتي إلى ربيع عربي آخر هي دعوة لإنعاش الحياة الثقافية، وأن الثورة التي أدعو إليها هي احتجاج على رتابة المعطى الثقافي الآن وصراخ من أجل التدارك قبل الاحتضار، وإن أردت أن استبق بالحكم فنحن اليوم، في عالمنا العربي كلّه، نتجرع قسرًا ورغمًا ونكدًا وكدرًا نخب مراسم التأبين لوداع اليوم الأخير. لن أعود إلى عصور تاريخية قديمة (فقد تجرعت وحدي مرارة المراجعة)، خلت من جامعة واحدة أو مدرسة، وأنتجت لنا -كالعصر العباسي- فطاحل الشعراء وكبار النقاد وأبدأ من الترجمات عن السريانية (كلغة وسيط إلى اليونانية) وعن الفارسية، وإنما أكتفي بالرجوع ستين سنة فقط، والى بلد على حدودنا، حيث كانت جامعة واحدة، وصالونات فردية شخصية بدلاً من نوادي الأدب ورابطات الأدباء، وحيث حياة للكفاف على حافة الفقر، أنتجت أربع عشرة مجلة تعج بأسماء الفلاسفة مثل يوسف مراد وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وزكريا إبراهيم، والمفكرين مثل جمال حمدان، والنقاد مثل محمد مندور وغنيمي هلال والقلماوي، والإعلام مثل طه حسين ولويس عوض وعبد الرحمن الشرقاوي والحكيم ويحيى حقي، وخلفهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وأنتجت كتابًا كل ساعتين حملت شعاره دار واحدة للنشر، وأقارن ذلك لدينا بحياة مستريحة ومخملية في بلادنا ينعم بها المواطن البسيط قبل المتميز، حياة للوفرة والسلام وكل أشكال الرعاية في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، ومساحة مهولة من الحرية في الرأي والتعبير، وعددًا خرافيًا لا يتناسب مع عدد المواطنين من الجامعات ومعاهد التعليم، ومدرسة بين كل مدرسة ومدرسة، ووفرة من النوادي الأدبية وجمعيات الفنون ومعارض الفن، وصحف تتنافس في استعراض شجاعة عرض الرأي والرأي المخالف، والمعطى النهائي لا يكاد يتجاوز الصفر بصفر آخر! يكاد يكون الوضع معكوسًا، فالحكومة تتقدم بخطى واثقة للإمام داخل مستقبل التاريخ المتجاوز لزمننا بمائة عام، ونحن نتراجع بخطى واثقة أيضًا إلى مائة عام مضت، وما قدمه رجل واحد مثل خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- من تعبير عن مدى الوعي في دعوته الفريدة للحوار مع الآخر، والجامعة العملاقة التي لا مثيل لها، ومشروعاته لتطوير التعليم وغيرها كلّها إشارات تبرز هذا الوضع المعكوس...
فإذا أردت أن ارتد مسافة عشرين سنة فحسب، أرى أننا كنّا طالبات صغيرات، وكنّا نصف أمامنا مشروعات ثقافية عملاقة تقترن بأساتذة أجلاء، منصور الحازمي وأحمد الضبيب وعزت خطاب وسعد البازعي وعبد الله الغذامي، وكنا نراهن على أن واحدًا من هؤلاء سيكون صاحب الحظوة في خروجه علينا بنظرية نقدية عربية خالصة مثلما فعل البلاغيون في العصر العباسي بدلاً من بنيوية أوربا، أو مثلما فعل قدامة بن جعفر في تطلعاته إلى ثقافة الغير، وبقينا طوال السنوات العشرين نرقب هؤلاء يتراجعون خطوة بعد أخرى، ونرقب الأصوات وهي تخبو إلى أن تصمت، والمعارك تموت قبل أن تبدأ، والحسرة تنضج في حلوقنا ونحن لا نكف عن الحلم.
لا أقصد إدانة لهؤلاء الأجلاء، فالواقع الثقافي في كل عالمنا العربي قد استكان إلى مواته، وتلك حقيقة قد تعطي امتيازًا لمن يبدأ برمي الحجر على سطح بحيرة راكدة، تتحرك المياه لتروي نبتات ذابلة، تنمو وتزهر لتشكل ربيعًا عربيًا حقيقيًا ورائعًا.. هذا حلم لن يحدث طالما أن مفكرينا ومبدعينا مشغولون بقضية المرأة السعودية، هل تقود سيارة أم لا؟ وهل تعمل في محلات بيع الملابس أم لا؟ وهل تقوم بالخدمة في المنازل أم لا؟ وهل تعمل حتَّى تعيش أم تموت جوعًا؟ وهل من حقها أن يسمع لها صوت في مجلس الشورى والمجالس البلدية أم أنه حرام؟ تلك قضايانا وأعجب أن بلدًا مثل باريس تنتج أشهر أدوات الزينة والعطور في العالم ولكن ذلك لم يشغلها عن أن تكون التربة التي نبتت فيها كل مدارس الفن وتيارات الفكر واتجاهات الأدب.
قد أكرر اعتذارًا عن هذا الاجتراح، فقد أخذتنا النشوة بمعرض الكتاب الأخير في الرياض، خرجت بمجموعات كبيرة من الشعر والقصة، كلّهم شباب لا أعرفه، وكلهم أكَّدوا بداخلي يقينا بأنهم نبتوا في وقت كان الأساتذة والمعلمون والنقاد مشغولين بمشاهدة التلفاز.
ولنا معاودة