اللذة اللاواعية التي يتعامل معها الجهاز الحسي بغفلة العادة كالتنفس والمشروب والمأكول يضاف إليها لغز إلهي يتمثل منشطه في تسديد ضروريات حياتية، لا تتم إلا بلذة حسية أو معنوية. فالله عز وجل عندما خلق الإنسان ناقصا أودع فيه فضيلة تسديد هذا النقص عبر ممارسة تكميلية منعكسة انعكاسا طبيعيا عن التكاملية الملحة بين ثنائيات هذا الكون: (الليل، النهار)، (الماء، اليابسة)، (الجمال، القبح)، (الجوع، الشبع)، وكأنها امتداد ضروري لثنائية (آدم وحواء) التي كانت بداية لأول ثنائية جمالية تتخلل اللذة في تشكيلها إذ نقص النعومة في الرجل يسددها عبر الاستمتاع بأنوثة حواء، والعكس صحيح. ويدخل هذا في عملية الجنس مباشرة، وامتدادها إلى حاجة الرجل والمرأة إلى ضرورة النسل عاطفيا وعقليا وروحيا للذة الامتداد وجمالية السلالة وحاجات أخرى. فحدث النقص الرقمي الفاضح في ضرورة البناء الإنساني ليدخل اللغز الإلهي في صناعة هذا الرقم من خلال ممارسة حيوية تمثل أكثر الفعاليات لذة لا سيما مقدمات لا تقل لذة، يشترك فيها طرفان يجمعهما شرط العشق بمحركاته الإنسانية والحيوانية. والأخير يشكل لغزا إلهيا عصيا على كل أدوات التأويل وهذا العجز اللذيذ يشكل هو الآخر مظهرا لجماليات الاستسلام. ويطرد هذا في كل اللذائذ التي يصفها العلم قدريا دون أن يعللها غيبيا. وعليه فكل البشر يستمتعون دون اشتراط وعي أسرارها أي جهل غير مؤذ يندفع في اللاوعي. وكما أسلفت فإن استنفار اللذة يكتمل عند فقدها. ويمثل الفقد كل طوارئ الحاجة والشهوة معبرا عن هذه الحاجة التي تكشف بوضوح رغبة الإنسان في الحياة، وما تفرزه هذه الرغبة من صخب ضامر يختصر في (ثقافة حب البقاء).
إن فضيلة أو شهوة الاختيار لدى الإنسان للمادة التي تسدد النقص برهان جديد على أن اللذة وفاعلية الجمال هو المعبر الوحيد عن دافعية تلبية الحاجة فالإنسان عند الحاجة للأكل، يختار أطيب المطعم وأطيب المشرب وعند الجنس أفضل الممكن من النساء. وبانورامية التفضيل في هذه الثلاث وغيرها مؤشر حاد على أن النقص والحاجة من أسرار الله لإغراء الإنسان على البقاء وحب الحياة والفراغ منها يمثل حالة التشبع (النهاية)، والتي أيضا تحمل في مؤثرها الباطني أن الشبع يبلغ مداه في حضور وعي دفين بأن ثمة نقص وحاجة آخذة في التشكل مع الفراغ من الشبع تكتسب على نحو تدريجي لذة جوع قادم يواجه لذة أكل منتقى. وهكذا تدخل اللذات (لذة الجوع ولذة الأكل) في مواجهة تعمق الهوية الجمالية للبقاء وطبيعة الوجود الإنساني إذ الجمال مؤثر واع أو لا واع يخلف أثرا موجبا على منظومة الحس.
تنهض في هذا السياق إشارة ضمنيه داعمة مفادها أن بانوراما الجماليات واللذة التي تحيط بالإنسان تجعل من كافة تعاطياته مادة سهلة لكشف المتعة الباطنية كنتاج للجماليات وأن هذا الاصطباغ الخفي أو غير الحاضر في الاعتياد الواعي يدعم تصنيف شتى السلوكيات ضمن السلوكيات ذات الخلفية الجمالية. قد تحضر في بعض مناحيها في غريزة حب البقاء وهذا البقاء له أيدولوجية مستقلة لكثافتها في الوعي الجمالي. ولا نعني بالجمال الحالة الفلسفية الإنسانية كما درجت عند فلاسفة الأخلاق أي ارتباطها بإنتاج القيم الإيجابية بل بباطنيات الرغبة الجامحة في (البقاء) في الدنيا (الحلوة الخضرة) وما يتطلبه من تنافس لا تتدخل اللذة في تحديد شرفه من عدمه إذ كراهية المنافسة والقمع والقتل والتعذيب حالة من اللذة التي تشترطها فرصة البقاء، لا سيما أننا في زمن ثقافة الاستهلاك وقطاع اللذة وازدهار عصرها لصنوف الجماليات ما يحتم علينا فحص العلاقة بين اللذة والإنسان والجمال والموت. والموت (القتل) فعل درامي مثير يدخل ضمن سيناريو السرد الحياتي يمثل عقدة الراوية وقد يمثل حلها في ضرورة فنية أخرى. وفي كل هو جزء من جماليات الأحداث إذا أكدنا أن النص السردي كتلة جمالية غير قابلة للتجزؤ. ولكن لو تحول هذا العمل الإبداعي من رصد خيالي إلى رصد واقعي كرواية تاريخيه لفعل الإبداع فيها فعله أو رواية راو للتاريخ فإن التلقي الجمالي يكون واحدا إذا كنا منبتي الصلة بالقتيل، أو كنا كذلك وتذكرناها بعد حين أي بعد جفاف الضمير. وكثيرا ما يتاح توظيف الموت في سياقات درامية تخدش ذائقه المتلقي، وتقلل من الجماليات الفنتازية. وإن كان حدث الموت إبداعيا بدا منطقيا إذ المتابع لا يريد لحدث الموت إلا أن يكون إبداعيا فريدا بمستوى فرادة الموت ذاته. فالموت بوصفه أكثر الأحداث مصيرية لا بد أن يعالج فنيا معالجة بحجم مفعوليته في خارطة الأعصاب والإدراك. فمهما كان الموت سهلا أو ممتعا أو صعبا ممتنعا داخل الفن إلا أن جمالية دخوله في العمل الفني لا بد أن يكون مؤطرا تأطيرا حسابيا دقيقا يحافظ على جماليات هيبته في السياق الإنساني ككل.
وأكثر المبدعين حساسية هم من يتفاعلون مع المآسي الكبرى في التاريخ المختومة بموت أسطوري، حتى وإن كان خرافيا فاستشهاد الحسين وتضحية المسيح ومصرع كليوباترا كلها تم التعبير عنها بهذه المترادفات الجذابة حسب الحالة الجمالية المتنوعة التي يتلقاها الإنسان ذو الحساسية الجمالية الرفيعة تجاه حادثة موت فلم تتحول إلى مأساة بالمعنى البكائي، بل الجمالي المستند على خلفية العشق التي يختصرها أرسطو في (الغفلة عن عيوب المحبوب)، وكأن الموت حالة غزلية عشقية تكرس للذة معنوية عليا صرفت عشق الحسين إلى عشق استشهاده والمسيح إلى تضحيته وكيلوبترا إلى مصرعها، (والمحبوب) عند أرسطو إلى معشوق كطرف مكتنز بالجماليات الوافرة يدخل العشق ليمنحها الكمال، وتجاوز معايبها أو تبديل العيب ذاته إلى جمال وان كان خادعا الا أنه جمال حسب المداول الشعوري. واللذة مرتهنة في نهاية الأمر بهذه المتداولات الحسية الخرافية. والخرافة معطى جمالي كما اليقين والشك وكل الثلاثة يتعاطون مصيريا مع ظاهرة الموت وجمالياته استيرادا وتصديرا لمضمرات النسق الجمالي وسر الله فيه.
Hm32@hotmail.com
الرياض