قال ابن منظور في لسانه: العَقْلُ: الحِجْر والنّهى، ضِدُّ الحُمْق، والجمع: عُقولٌ. وقال صاحب القاموس: العقل: العِلْمُ بِصفاتِ الأَشْياءِ، من حُسْنِها وقُبْحِها، وكَمَالِها ونُقْصانِها، أو العِلْمُ بخَيْرِ الخَيْرَيْنِ، وشَرِّ الشَّرَّيْنِ، أو مُطْلَقٌ لأُمورٍ، أو لقُوَّةٍ بها يكونُ التمييزُ بين القُبْحِ والحُسْنِ، ولِمعانٍ مُجْتَمِعةٍ في الذِّهْنِ. يكونُ بمُقَدِّماتٍ يَسْتَتِبُّ بها الأَغْراضُ والمصالِحُ، ولهَيْئَةٍ مَحْمودةٍ للإنْسانِ في حَرَكاتِهِ وكَلامِه. والحَقُّ أنه نورٌ روحانِيٌّ، به تُدْرِكُ النفسُ العلومَ الضَّرورِيَّةَ والنَّظَرِيَّةَ. وابْتِداءُ وجودِه عند اجْتِنانِ الوَلَدِ، ثم لا يَزالُ يَنْمو إلى أن يَكْمُلَ عند البُلوغ. انتهى كلامُهُما، وبناءً على تعريفيهما للعقل أقول:
تتجلى أسمى صور حرية العقل في الإسلام عند الحديث عن حرية المعتقد، فقد تواترت النصوص الكريمة التي تثبت - قطعاً - أنّ للإنسان كامل الحق في اعتناق ما يشاء، وتبني ما يشاء، واختيار ما يشاء من الملل والنحل والمذاهب الفقهية والقناعات الفكرية وغيرها.. ومن ذلك - مثلاً لا حصراً - آية البقرة الشهيرة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وآية الشورى التي تقول: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}، وكذلك آية سورة يونس: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، ومن السنّة قول النبي محمد عليه السلام، فيما رواه الطبري وغيره: (من كان على يهوديته أو نصرانيته فلا يفتن عنها)، أي لا يُصرف عنها بالقوة والإكراه.
وفي قصة ريحانة جارية النبي محمد عليه السلام دليل آخر على ذلك، فقد تعصّت بالإسلام – حين سباها - أي امتنعت، وأبت إلا اليهودية، فلم يكرهها حتى أسلمت من تلقاء نفسها.
إنّ ديناً سمحاً سهلاً كهذا، يسمح للناس بالحريّة العقديّة، ويمنع إكراه عقولهم على ما لا يقنعهم من المعتقدات، ويُخْبِر رسولُه أنه مبلغ فقط؛ إن ديناً كهذا لا شك أنه سيسمح لهم بجميع الحريات الأخرى - الأقل من حرية المعتقد - من باب أولى!
ولذلك لا أعتقد أنّ الصورة التي يعكسها لنا كثيرٌ من مطبّقي الإسلام على أرض الواقع اليوم صحيحة إطلاقاً؛ ومن ذلك إصرارهم على فرض الآراء الشرعيّة التي تقنعهم ويختارها أو يرجحها كبارُهم، وبذل الجهود الجبارة لتهميش ما سواها من الآراء الإسلامية الأخرى.
إنهم يفرضون ما يريدون بالقوة، متجاهلين عقل المتلقي الذي جعله الإسلام مناط التكليف، ومتجاهلين عشرات الآيات الكريمة التي تحث على التفكر والفهم والبحث والتأمل قبل إعلان الاقتناع، مثل: «أفلا يعقلون، أفلا يفقهون، أفلا يتدبّرون، أفلا يبصرون .. الخ».
إنهم يتجاهلون كلَّ ذلك عمداً، ويلحّون في إلزام غيرهم بقناعاتهم الخاصة عنوة وقهراً، فإذا ناقشهم أحدٌ من الناس في موضوع معيّن، وأظهر وجهة نظر مخالفة لما يريدونه، أو نقل رأياً إسلامياً قديماً أو معاصراً يخالف رغباتهم؛ استخدموا ضدّه فوراًَ ذلك السلاح العجيب المتمثّل في قولهم (عقلُ الإنسانِ قاصر)، ولا يفهم النصوص الشرعية بشكل صحيح إلا نحن والإمام فلان أو الشيخ فلان فقط، فلا تدخل نفسك في أمور لا تفهمها، ولا بد أن تستسلم أيها الجاهل الناقص لنا ولفهمنا الخاص الكامل العظيم، وفهم علمائنا الخاصّين المميّزين فقط، دون بقية أئمة وعلماء الإسلام الآخرين أو غيرهم من العلماء والحكماء والفلاسفة والمفكرين. يجب عليك الانصياع لقناعات مذهبنا الفقهي دون غيره من المذاهب.. يجب عليك التسليم لكل ما نراه صواباً ونختاره ونرجحه من أقوال الفقهاء وعلماء اللغة والعقيدة، والمحدّثين والمفسّرين للنصوص المقدّسة، دون أن تفكّر أو تعمل عقلك في دلالاتها ومعانيها، ناهيك عن الاعتراض أو محاولته.
يا أهل الحلِّ والعقدِ في ديارنا: هل من سبيلٍ إلى تصحيح ذلك المنهج الفاسد المنحرف الذي يسير عليه ويتعامل به مع الناس كثيرٌ من متطرّفي رجال الدين في هذا الوطن؟ أم هل من سبيلٍ إلى الحوار الجاد معهم، تحت مظلة رسميّة، وبطريقة حضارية إيجابية لبقة، تضمن القضاء عليه واستبداله بما هو أصلح وأنفع؟!
قد يقبلُ الإنسانُ المؤمن - بأي دينٍ - تقديسَ نصوص دينه واحترامها واعتبارها مصادر يقينية للمعلومات والمعارف والقصص والغيبيات وغيرها، ولذلك نحترم ونقدّس - كمجتمع - ما ورد في القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة؛ ولكن الذي لا يمكن للعاقل السوي قبوله والخضوع له هو تقديس بعض تفاسير تلك النصوص وتأويلاتها وشروحها وآراء فئة مختارة منتقاة من العلماء، وتناقل أقوالهم وترويجها بين الناس، ورفض ما سواها دون مبرّر سليم مقبول، وكأنها وحي منزل لا يمكن أن يكون فيها خطأ أو زلل أو نقص أبداً.
يتجاهل عشّاق الوصاية تلك النقطة، فيختارون من بين وجهات النظر وخلافات العلماء التي لا تنتهي حول مدلول نصٍّ معين ومراده قولاً واحداً يعجبهم ويوافق رغباتهم الشخصية أو توجهاتهم النفسية، ثم يأمرون بقية البشر بالتسليم بصحته، والخنوع أمامه والخضوع له، والقطع بأنه هو الصواب الذي لا غبار عليه، بل الذي لا يمكن أن يكون عليه غبارٌ أبداً، وأنه هو المراد الذي قصده الله بالنص يقيناً، ثم يطالبون بتطبيق ذلك المدلول المقدّس عندهم على حياة جميع الناس دون قيد أو شرط أو حوار أو جدل!
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ذلك المفهوم البشع المغلوط المشوّه، لم يولد بهذا الحجم الضخم في بداية ظهوره، ولم تصل آلية إسقاطه على الواقع إلى هذه الدرجة العالية من الترسيخ الواضح والانتشار الواسع والتكريس المزعج، إلا بعد أن حصل ما يعتبره المؤيدون له هزيمةً للعقل البشري بعد المعارك الضارية التي دارت بين المعتزلة القائلين بأنّ القبحَ والحسن عقليان، وبقية الطوائف الكلامية التي تخالفهم، ومنهم الأشاعرة الذين يرون أن القبح والحسن شرعيان، وأهل السنّة الذي يرون أن بعض الأمور لا يدرك حسنها وقبحها إلا بالشرع فقط، وبعضها الآخر لابد للشرع من مشاركة العقل في تحسينه أو تقبيحه، ويتبع رأي الأشاعرة والسنّة في هذه المسألة فئام من الوعّاظ الذين لا أميل كثيراً ولا قليلاً إلى آرائهم في مجتمعاتنا العربية اليوم.
إننا لا نكاد نجد نصاً واحداً من نصوصنا المقدسة خالياً من اختلافات العلماء عند محاولة تطبيق مدلوله في حياتنا، فلماذا لا يُترك اختيار المدلول الصحيح والمراد المقصود من كل نصٍّ لعقل الإنسان إذا كان قادراً على الترجيح؟ بل لماذا لا يُفتح المجالُ أمام القادرين من الناس على ابتداع وابتكار تفاسير جديدة لتلك النصوص؛ خاصة ونحن نعيش في زمن تعددت فيه وسائل البحث والمعرفة، وتنوّعت فيه نتائجُ الدراسات والبحوث العلمية، وغيرها من الأمور التي قد تجعل التفسيرات الحديثة المنطقية لكثير من تلك النصوص الغامضة أفضل وأدقّ وأجمل، وأقدر على الانسجام مع العصر من تفاسير المتقدمين وتحليلاتهم؟!
يجب أن يستوعب الجميع أن ابن العصر أكثر قدرة على معرفة ما يناسبه في حياته من السابقين له، الذين عاش كثير منهم في قرون بعيدة تختلف طبيعة الحياة فيها كلياً عن العصر الحديث الذي نعيش فيه.
من الخطأ أن يظنّ أحدٌ أن إحالة نوع من المعلومات المتلقاة إلى صندوق حفظ الحقائق المؤكدة في عقله دون فرزها وترتيبها وإجراء امتحانات ذهنية حقيقية عليها، بحجة أنها جاءت من مصادر معينة لها صفة خاصة، تجعل التسليم بصحة ما يرد منها يقينياً قطعي الصحة والثبوت؛ من الخطأ – في رأيي - أن يظن أحدٌ ذلك، سواء كانت تلك المعلومات مسموعة أو مقروءة أو مشاهدة، وسواءً كان مصدرها رجلاً مختصاً أو مهتماً أو امرأة مختصّة أو مهتمة بالدين أو السياسة أو الفكر أو الاقتصاد أو الأدب أو التاريخ أو غير ذلك.
أغلب الناس يقومون بذلك، دون أن يشعروا بحجم الخطأ الذي يرتكبونه؛ لأنهم اعتادوا على هذا الأمر وتشرّبوه منذ الطفولة. ولذلك يعتبرون المتفحِّص لما يظنونه مسلمات شاذاً غريباً منبوذاً غير محبوب ولا مقبول عندهم. إن تعطيل الفكر الإنساني في مجتمعاتنا بهذه الطريقة الوحشية لم يحدث هكذا فجأة في ليلة وضحاها، بل مرّ بسلسلة طويلة من المراحل التي تراكمت وتمازجت جسيماتُ مكوناتها، حتى تبلورت على أرض واقعنا المجتمعي بلورة سيئة ملموسة ومحسوسة للأسف.
قال لي أحدهم: هذه الطريقة التي لا تعجبك هي سرُّ السعادة؛ لأن التعمّق في كلِّ معلومة وسبر أغوارها والتغلغل في أسرارها متعبٌ وشاق، بل قد يصل بالإنسان إلى الحزن والشك في كل شيء حوله، وهذا أمر صعب ولا يطاق.
ولا يسع المرءَ وهو يسمع مثل هذا الكلام إلا أن يتعجب لسعادة لا تنال، إلا بأن تحيا الأمة بمفهوم (سياسة القطعان) التي يوجّه أفراد المجتمع وفقها توجيهاً إلزامياً لكل شيء.. يساقون لما يريده الراعي، ويُمنعون من البحث في مدى صحته من عدمها!!
نعم، ربما يكون بعض هؤلاء المحرومين من عقولهم سعداء، بل سعداء جداً كما ظهر لي من تأمل حياة عيّنات منهم. المعرفة قد لا تهب الإنسان السعادة الكاملة، وقد يدخل المرءُ بسبب التفكّر الزائد في منعطفات شديدة من الألم والقلق والتعب والصراعات النفسية، وكما قال المتنبي:
وَالهَمُّ يَخْتَرِمُ الجَسيمَ نَحَافَةً
وَيُشيبُ نَاصِيَةَ الصّبيّ وَيُهرِمُ
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ
وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ
وَمن البَليّةِ عَذْلُ مَن لا يَرْعَوي
عَن جَهِلِهِ وَخِطابُ مَن لا يَفهَمُ
ولكنها - أي المعرفة - تنفع الإنسان، وتجعله يفهم ما يدور حوله وما يمرّ به من أحداث ومواقف. وهذا النفع المعرفيُّ لا يستلزم التعاسة على إطلاقه، بل ربما نال الإنسانُ بعد وصوله إلى مرحلة عالية من الاطلاع الفلسفي والتعمّق والتفكر المعرفيين نصيباً وافراً وحظاً عظيماً من السعادة الناتجة عن الفهم الصحيح للأمور عامة، وللتشريعية الدينية منها بشكل أخصّ، بعد ربط خيوطها ببعض بهدوء تام وتأمل دقيق شامل وتركيز طويل نفس، وبحث مستفيض مثمر على المدى البعيد.
إنه ليس هناك جهل نافع ولا معرفة ضارة أبداً. وقد تكون المعرفة الحقيقية الناتجة عن البحث والاطلاع الواسعين متعبة وصادمة ومؤلمة في المراحل الأولى من صعود تلك السلالم الشائكة؛ ولكنها قد توصل الإنسان في النهاية إلى برِّ الاستقرار والراحة والتصالح مع الذات، عند بلوغه أعلى درجات تلك السلالم، وهنا تكمن سعادة أخرى مختلفة تماماً عن تلك السعادة الزائفة التي يتوهمها بعض الجهلة.
لابد أن ينهي أبناء مجتمعنا المنغلق المستسلم المسيّر حالة السلام مع عقولهم.. لابد أن يستيقظوا من سباتهم. إنه لمن المتحتم عليهم جداً - ذكوراً وإناثاً - أن يتحاربوا ويتصادموا مع آلاف المعلومات المخزنة في رؤوسهم. ليس للمجتمعات العربية، وعلى رأسها مجتمعنا.. ليس لها على ما يتراءى لي أن تنتظر مُنقذاً من الخارج. يجب أن ينقذها المتنورون من أبنائها.. يجب أن يعملوا ويجتهدوا ويبذلوا الكثير إذا أرادوا الانتقال بمجتمعاتهم من عالم الانغلاق الرجعي القبيح إلى عالم المعرفة الانفتاحي الجميل.. لابد أن يعوّدوا عقول الناس على الاحتجاج الثقافي الذي يحرث ركامَ القناعات حرثاً يعزل ويميّز الحقيقة من الوهم والغث من السمين والخبيث من الطيّب والماء من السراب، بالحجج العقلية والبراهين الدامغة والأدلة القطعية، لا بالعواطف والتقليد فقط. لابد من الاحتجاج.. لابد من الاحتجاج.
إن الامتحانات الذهنية ضرورية جداً للإنسان السوي المدرك المتبصّر، ولابد من التعود عليها والإكثار منها دون قيود أو شروط أو عقبات أو حواجز. لابد أن تخلّص نفسك أيها الخاضع التابع مِن أغلال التبعيّة حتى تنعم بجنة الحرية.
العلاج سهل وميسرٌ جداً يا رعتك قوى الرب، ولا يحتاج إلى كثرة شرح ولا إلى تكرار طرح. الخطوة الأولى من العلاج هي أن تحضر ورقة وقلماً الآن، وتكتب مجموعة من الأمور الكبيرة التي تظنها ويظنها مجتمعك مسلمات أو ثوابت أو مبادئ أو قيم أو حقائق قطعية يقينية لا تقبل الجدل والنقاش. جرّب أن تختار عدداً كبيراً منها بعشوائية، ثم اجلس في مكان هادئ بعيد عن الناس، وتأملها بتفكير عميق صادق وتجرد حقيقي من العواطف والإملاءات والتأثيرات الاجتماعية ورواسب التلقين. ثم انظر إلى النتيجة. لن أسهب أيها المؤدلج في شرح بقية خطوات الدواء الناجع لحالتك؛ لأنك ستكتشفها تلقائياً بعد تكرار هذه الخطوة الأولى عدة مرات.
الرياض