تقديم: هنا حوار مع الروائي الإنكليزي المعاصر واللامع جوليان بارنز. الذي ولد في 19 كانون الثاني/يناير 1946، ودرس (اللغات المعاصرة) في جامعة أكسفورد. وكانت ثلاث من رواياته قد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة (البوكر) التي تسمى حالياً (مان بوكر) وهي: (ببغاء فلوبير) 1984، (إنكلترا، إنكلترا) 1998، و(آرثر وجورج) 2005، ولكنه لم يفز بجائزة مان بوكر إلا عندما وصل إلى قائمة البوكر القصيرة في المرة الرابعة عام 2011، عن روايته (الإحساس بنهاية)، التي تقع في 150 صفحة فقط وتتميز بغلافها الرائع. أصدر بارنز 11 رواية باسمه الحقيقي أولها كان عام 1980، وآخرها في عام 2011. كما أصدر 4 روايات بوليسية تحت اسم مستعار هو دان كافانا، وأيضاً، صدر له 7 كتب أدبية منوعة: قصص قصيرة ومقالات وسيرة ذاتية. وصدر عن أدبه 8 كتب نقدية. وحصل على العديد من الجوائز الأدبية في أوروبا وبخاصة من فرنسا حيث يحظى بشعبية واسعة.
وهنا حوار مثير معه أجرته الكاتبة سكارليت بارون، التي تحضر الدكتوراه في الأدب الإنكليزي في جامعة أكسفورد، والتي عنونت أطروحتها ب (تأثير فلوبير على جيمس جويس). أجرت بارون الحوار بمناسبة صدور سيرة بارنز الذاتية عام 2008، بعنوان (لا شيء يخاف منه)، والتي أعلن فيها عن إلحاده صراحة؛ حيث بدأها بسطر أرعب القراء المؤمنين: (لا أؤمن بالله، ولكنني أفتقده)! وما بين الأقواس للمترجم.
(بارون): ما رأيك بقرائك في هذه الأيام؟ لقد كان هناك وقت عندما كنت تعارض اهتمام وتدخل القراء بحياتك، وكذلك بعملك؟
(بارنز): حسناً، في مواجهة اهتمام القارئ بحياتك، وكذلك بكتبك، تجد نفسك ترد بطريقتين؛ فمن ناحية، يمكنك اتخاذ موقفاً فلوبيرياً نسبة للروائي الفرنسي غوستاف فلوبير ، طالع هامش المترجم رقم 1 يكون سامياً في التفكير وتصر على أن المهم هو العمل الفني فحسب. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يكون رد فعلك مثل أي كائن بشري عادي قد يرحب بالتدخل في حياته الخاصة. أعتقد شخصيا أن الكتب يجب أن تكون كافية للقراء: تماماً كما يجب أن تكون قطعة من الموسيقى كافية لجمهور المستمعين، وتماماً كما يجب أن تكون اللوحة الفنية كافية للجمهور في المعرض الفني. يجب أن يشرح العمل الفني نفسه، وإذا لم ينجح في ذلك، يعتبر عملا فاشلاً. ولكن في الوقت نفسه، تهمني مثل أي شخص آخر حياة الفنانين والكتاب. أنا ثرثار ونمام مثل أي شخص آخر. ولذلك أفهم أنه إذا أحب الناس عملك، فإنهم في كثير من الأحيان أيضاً يريدون أن يعرفوا أشياء كثيرة عنك.
(بارون): قلت في كتابك (المتحذلق في المطبخ) (وهو مجموعة مقالات لبارنز عن الطبخ صدر عام 2003) أن (الكتاب الجيد يقنع القراء الذين لا يعرفون المؤلف بأنهم أصدقاء حقيقيون له). كيف تشرح هذا؟
(بارنز): نعم. أحد أهم القرارات التي يجب على المؤلف اتخاذها عندما يبدأ بتأليف كتاب يتعلق بتحديد نوع العلاقة التي يريدها مع القارئ في ذلك الكتاب. يجب أن تحدد كل مرة كيف ستكون علاقتكما ببعضكم البعض. وبشكل عام، أحب أن يكون القارئ في (أقرب مكان ممكن).
(بارون): ماذا يعني أن يكون القارئ في (أقرب مكان ممكن)؟
(بارنز): هذه هي الكيفية التي أتصور بها تلك العلاقة. هناك بعض الكتاب يجلسون أمام منبر للخطابة عندما يكتبون، والقارئ يجلس في الأسفل هناك مع الجمهور. الكاتب هنا يلقي خطبة على القارئ عن الحياة ومما تتكوَّن وعن ماهية الحقيقة. وعلى النقيض من ذلك، أحب شخصياً أن (يجلس) الكاتب والقارئ معاً، ليس وجها لوجه، ولكن (جنباً إلى جنب)، ينظران في الاتجاه نفسه، من خلال ما يشبه نافذة لمقهى. وبعد ذلك في السيناريو الخاص بي، يسأل المؤلف القارئ: (ما رأيك بها (البطلة)؟ إنه (البطل) يبدو غريباً بعض الشيء، أليس كذلك؟! ولكن لماذا يتشاجران؟). وهكذا تكون نظرة القارئ تتوازى مع نظرة الكاتب، ولكن يتقدم المؤلف على القارئ قليلاً إلى الأمام لأنه رأى هذه الأشياء أولاً بالطبع.
(بارون): لقد قلتَ ذات مرة (كاتب رديء أفضل وأهم من ناقد ممتاز. وظيفة الناقد هي أولاً الشرح، وثانياً الاحتفال والتشجيع بدلاً من التنقص). ترى، هل تطور موقفك إيجابياً أو أصبح أكثر ليونة اتجاه النقاد؟
(بارنز): لا أقول أن موقفي قد تطور لأني لا أعتقد أن ذلك الرأي كان بالضرورة عدائياً. من الصعب جداً مراجعة ونقد الروايات، ومع ذلك، هناك الكثير من الناس يتجرأون على ذلك من دون أية مهارة تذكر. لقد كتبت مراجعات لمئات الروايات في حياتي، ولكن لو طلب مني جمعها ونشرها في كتاب، فأعتقد أنني لا أرغب في إعادة طبع أي منها باستثناء مقالة نقدية وحيدة كانت عن رواية (كونتر لايف)، ل فيليب روث (طالع هامش المترجم رقم 2) التي أعتقد أنها أفضل كتبه. واستغرقت مني ثلاثة أو أربعة أسابيع لكتابتها. أعتقد أن التطور الوحيد في تفكيري عن النقاد - وأنا لا أفكر كثيراً بهم – هو ربما أنني صرت أشعر بتعاطف واحترام للنقاد الأكاديميين أكثر من النقاد الصحافيين. إنني أعتبر النقاد الصحافيين يشكلون عقبة كبرى تسبب (سوء فهم) للقراء ينبغي على الكاتب والكتاب تجاوزها قبل أن يصلوا إلى القراء.
(بارون): هل تشعر ببغض زائد للنقاد قبيل صدور كتاب جديد لك؟
(بارنز): لست بمثل سوء الروائي فيليب روث، الذين كان يعيش في كل من إنكلترا وأمريكا، وكان يغادر الدولة التي يصدر فيها كتابه الجديد متوجهاً إلى الأخرى حتى لايقرأ العروض النقدية لكتابه. ولكنني لم أقرأ أية مراجعة نقدية بريطانية منذ نحو سبع أو ثماني سنوات حتى الآن!
(بارون): لماذا؟
(بارنز): سببان حقاً. الأول، لم أقرأ مطلقاً عرضاً نقدياً جعل مني كاتباً أفضل، أقصد لم أقرأ مطلقاً عرضاً نقدياً نبهني إلى شيء جعلني أكتب الكتاب التالي بطريقة مختلفة أو أفضل. والثاني، لست أفضل من غيري في تقبل الانتقادات التي أعتقد أنها غير عادلة، أو الترحيب بإهانتي. لا أعتقد أن مثل هذه الممارسة الكيدية السائدة تفيد الكاتب. ولذلك في النهاية، تجد نفسك تستعرض المراجعات بحثاً عن كلمات الثناء وأعتقد أن هذا وضع مخزٍ وليس من النبل في شيء.
(بارون): تبدأ واحدة من قصصك القصيرة، غنوسين، بالجملة التالية: (اسمحوا لي أن أوضح أنني لا أحضر مطلقاً المؤتمرات الأدبية)! ولكن هناك مؤتمر سيعقد في حزيران/يونيو القادم حول موضوع (جوليان بارنز كرائد للرواية الأوروبية المعاصرة) في جامعة (ليفربول هوب)، أليس كذلك؟ فهل ستذهب إليه؟
(بارنز): نعم، هناك مؤتمر قادم. ونعم، سأذهب إليه. أنا لن أذهب إلى هذا المؤتمر بمعنى الجلوس لسماع الأبحاث في المحاضرات التي تمدحني. أنا ذاهب – جزئياً على الأقل - لأن عدداً من أصدقائي الجيدين سوف يكونون هناك، وأيضاً لأنني أعتقد أنه إذا كان هناك أناس سيأتون من جميع أنحاء العالم لحضور مؤتمر في بلدي عني، فإن أقل ما يمكن القيام به هو أن أكون حاضراً بينهم فعلياً لكي أجيب عن أية أسئلة أو طلبات للحوار. يبدو لي أن هذا نوع من المجاملة الأدبية الواجبة.
(بارون): قلت ذات مرة إنك عندما عرفت أن أدبك أصبح يدرّس في المدارس والجامعات شعرت بشهقة الموت؟ كيف ولماذا؟
(بارنز): نعم، شعرت بها. عندما بدأ الناس في دراستي في الكليات شعرت بذلك بالفعل ولا أزال أشعر بها إلى حد ما - وودت أن أقول لهم (مهلاً، لم انتهِ بعد، لا تضعوا تعميمات حول عملي بينما أنا لا أزال أكتب). وهناك سبب آخر يجعلني أقلق عندما أحس بأنني أصبحت (نصاً مقرراً). أتذكر ما يكون عليه الوضع في المدرسة عندما يجب على الطالب قراءة نص مقرر إجبارياً ويكون – كالعادة - للكاتب الخطأ وفي الوقت الخطأ، وبالتالي فإن ذلك لا محالة سيؤخر كثيراً - وربما يقضي على- أي احتمال لبروز كاتب متميز من بين هؤلاء الطلاب إلى الأبد. في العالم المثالي، يصل القراء إلى كتبك بواسطة نظام جذب غامض... ربما بنوع من الحاسة السادسة. من المقلق لي التفكير بأن قارئ محتمل سوف يصد عني بسبب إجباره على دراستي ك (نص مقرر). انتهى الجزء الأول. ونتابع الجزء الثاني في الأسبوع القادم بحول الله.
هوامش المترجم
(1) غوستاف فلوبير (Gustave Flaubert) (1880 - 1821) : روائي فرنسي، ويعتبر من أعظم الروائيين الغربيين. درس الحقوق، ولكنه عكف على التأليف الأدبي. أصيب بمرض عصبي جعله يمكث طويلاً في مدينة كرواسيه. كان أول مؤلف مشهور له: التربية العاطفية (1843 – 1845)، ثم مدام بوفاري 1857، التي تمتاز بواقعيتها وروعة أسلوبها، والتي أثارت قضية الأدب المكشوف. وتعتبر رواية (مدام بوفاري) من أروع الأعمال الأدبية إذ إنها تعتبر انتصاراً حقيقياً للواقعية على الحركة الرومنطيقية. وبعد كتابة فلوبير لهذه الرواية، قامت النيابة الفرنسية باتهام فلوبير بالدعوة للرذيلة لأن روايته فاحشة وبذيئة وغير أخلاقية، ولكن سرعان ما أثبت محامي فلوبير عكس ذلك. ثم تابع فلوبير تأليف رواياته المشهورة، منها: (سالامبو) 1862، و(تجربة القديس أنطونيوس) 1874. ويعتبر فلوبير مثلاً أعلى للكاتب الموضوعي، الذي يكتب بأسلوب دقيق ومثالي خالٍ من الأخطاء، ويختار اللفظ المناسب والعبارة الملائمة. أصدر 15 رواية، و4 كتب تحتوي على رسائله للأدباء. كما صدرت 4 كتب على الأقل عن سيرته وأدبه.
(2) فيليب روث، روائي أمريكي معاصر من موال يد 19 آذار/مارس 1933. ويعتبر روث – وهو حفيد مهاجرين أوروبيين يهود - أهم روائي أمريكي على قيد الحياة من حيث منجزاته. حصل على ماجستير في اللغة الإنكليزية وعمل في التدريس. أصدر 99 كتاباً تقريباً حتى الآن، رصدنا منها: 27 رواية كانت أولها عام 1959، وآخرها عام 2010. و65 كتاباً أدبياً منوعاً (قصص، مقالات، نقد، حوارات...الخ). كما أصدر 3 كتب في السيرة الذاتية وكتابين عن فن الكتابة، وكذلك كتابين لمختارات من أعماله وخطبه. صدر عن أدبه 35 كتاباً. حصل على عدد هائل من الجوائز والأوسمة الأمريكية والعالمية منها جائزة الكتاب الوطني لـ 5 مرات، وحصد جائزة نقاد الكتاب مرتين، و3 مرات جائزة فولكنر المنبثقة عن منظمة بن الدولية، وجائزتي بوليتزر لأفضل رواية. أسس المتأثرون به جمعية غير ربحية باسم (جمعية فيليب روث) لدراسة وتقدير أعماله وأثرها على المجتمع؛ وعقدت مؤتمرات عنه. كما قامت الجمعية بإصدار مجلة باسم (مجلة دراسات فيليب روث). أصبح روث أحد أشهر كتاب جيله لوفرة وتميز إنتاجه والكم الهائل من الجوائز التي حصل عليها. سئل عن مستقبل الكتاب الورقي؟ فرد: (لم يقدر الكتاب على منافسة السينما ثم التلفزيون. والآن هناك جهاز يجمع التلفزيون والسينما معاً مع شاشة لقراءة الكتاب الإلكتروني، ولن يقدر الكتاب الورقي على منافسته مطلقاً).
Hamad.aleisa@gmail.com
المغرب