في تقديري أنّ الأديب الراحل أحمد ابن راشد المبارك كان من أبرز الأصوات الشعرية التي أضاءت في القرن الماضي على ساحل الخليج العربي وأعطت مناهج تجديدية في الشعر المعاصر سواءً في رقة الشعر أو بلاغته أو معاني الالتزام في قضايا الوطن العربي ودعم حركات الكفاح والاستقلال القومي، وفي اعتقادي أن أحمد بن راشد المبارك لم تُغطّى شخصياته الإبداعية الشعرية ومضامين رسائله الفكرية فيما كُتب عنه وإن تطرقت لبعض ذلك وإنما أنا هنا أعرض لنماذج من القراءات والترجمة اليسيرة لديوانه وبعض الإضاءات في شعره العروبي الملتزم وهذا قطعاً لا يوفيه حقه رحمه الله ولكنه يشير إلى لغته وفكره المتميز في شاعريته.
ولد الأستاذ أحمد المبارك وقضى طفولته في بيئة علمية إسلامية شرعية عميقة هي أسرته آل مبارك المشهورة وهي من أهم الأسر العلمية في منطقة الخليج، ومن ثم فإن عهد الشباب الأول لديه كان متصلا بجيل أسرته ومحيطها العلمي خلال القرن الرابع عشر الهجري والتي فيها التقى وعايش شخصيات إسلامية بارزة في محيطه الاجتماعي من أهمها والده الشيخ راشد بن عبد اللطيف المبارك والعالم الإصلاحي الصلب الشيخ عبدالعزيز العلجي.
تجسد هذا التأثر والاندماج في مرثياته الشعرية المتعددة التي منها رثائه في الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف المبارك وفيها يقول:
يا قبرُ هذا الضيفُ جاءك نازلاً
رفقاً ولطفاً إنه لجديرُ
ياقبرُ لو أنَّا رزئْنا واحداً
صَغُرَ المُصاب وليس ثمَّ صغير
لكنْ رزئنا في ثراك ثلاثة
العلمُ والإرشادُ والتحريرُ
فاهتز عَرش المكرمات لفقده
وبكى عليه منبرٌ وسريرُ
وهذه المعاني أيضا تتجسد في رثائه للعلامة الشيخ عبد العزيز بن حمد المبارك:
أرثيك لو يشفي الرثاءُ غليلا
وأنوحُ لو يُجدي النواح فتيلا
أعززْ بذيَّاك المُحيَّا أن يُرى
تُرخي عليه يدُ الفناء سدولا
واللهِ لو أجدى الفداء لما رأت
كفُّ المنون إلى عُلاك وصولا
قالوا ثوى «عبدالعزيز» وأطفأت
كفُّ المنية ذلك القنديلا
كذبوا وربِّك أنت حيٌّ خالدٌ
رغمَ الفناءِ ورغم ماقد قيلا
ما مات من بقيت له آثاره
تزكو فروعاً للعلا وأصولا
ما مات من يحوي التراب رفاته
إن ظل ذكر فعاله موصولا
«عبدالعزيز» وأنت أكرم راحل
لاقيت ربك والجزا المأمولا
جاورته من بعد طول تشوق
أكرم به نزلا وأنت نزيل
يجزيك بالإحسان منه منة
أكرم بربك محسناً ومنيلا
هذا التشبع لمفاهيم البيئة لم يكن تقليديا ولكنه حمل حالة من التطوير والإبداع في مفردات شعره وأدبه لتأثيرات حياته الثقافية الأولى.
ومع أن البيئة الشرعية في الخليج لم تكن في حالة تجاوب كبير مع الحراك القومي الذي بدأ ينتشر في الوطن العربي كرد فعل على أجواء المشروع الاستعماري ورغبة في التقدم إلى مشروع نهضة ووحدة شاملة للوطن العربي بسبب لغة المناهضة التي انتهجها بعض القوميين العرب ضد التشريع والانتماء الإسلامي وأيضاً بسبب اصطدامهم مع بعض الوعاظ الدينيين ودورهم السلبي في قضايا الإصلاح وإن صحح الموقف مع الفكر الإسلامي لاحقاً.
هذا الوضع في حركة الانتماء الثقافي والوعي كان يعيشها الشاعر في وقت مبكر من شبابه، فإن البيئة الشرعية والتضامن العربي الإسلامي كان حاضرا قويا في بيئة الشاعر، وإن توسع بعد ذلك في دائرة الفكر والتجاوب مع الحركة الثقافية العربية ومنها الناقدة للحالة الدينية فسبح في معالم القراءة بموسوعية ومتابعة الناقد مع غيرة وطنية جامحة لبلده الأحساء تمثلت فيها حرقته وإخلاصه ووطنيته بكل وضوح وفيها يقول في قصيدة هجر:
يا هجرُ والدنيا حظوظ
ولست بغاضب أو مستقيل
لكنه عتب الكريم
على العزيز من القبيل
لو كان لي حادي لديك
لما تركته للبديل
يا هجر لو فرقت بين التبر
والتربِ الذليل
أصبحت حاد لكل ذي شجن
وذي الهم الدخيل
وأنا الذي يأبى إباء
الأخذ من كف البخيل
لو يرتضي عين الهوان
يعيش بالنزر القليل
وبرزت روحه الشعرية مع صوت الانتماء والاستقلال العربية وعدم الخضوع وتجسدت تلك المفاهيم في شعره ففي قصيدة النعي لابن عمه خليفة بن الشيخ أحمد المبارك الذي اغتيل في باريس منتصف الثمانينيات وكان يشغل منصب سفير الإمارات العربية المتحدة فيقول:
جفَّ اليراعُ وماتت في فمي الكلمُ
فالحزنُ منتصرٌ والصبر منهـزم
يا سامرَ الحيّ لا تمررْ بساحتنا
فبدرنا غاب تمّاً وانطوى العَلَمُ