عندما يكون المرء قريباً من الله، وطيدَ الصلة بالناس، وفيّاً للوطن، قائماً بقسط المجتمع، يعايش بإخلاص هموم الأمة، فإنه لا يقف أمامه إلى القلوب حاجز، ولا يعترضه في طريق التقدير حاجب، هذه هي حال المكرم الليلة، الذي اكتسب من عشيرته ومدينته ومحيطه ما تعرفونه عليه من مناقب وخصال. والاحتفاء هنا، الذي حظي بالإجماع والتبريك، لم يكن فحسب، بسبب الوظائف الذي تسنّمها، أو السنوات التي أمضاها في الخدمة العامة، بقدر ما هو تكريم لمدرسة الأخلاق التي تخرّج فيها، والمُثل التي مارسها، والقرب من القلوب، تلاقت عليه رؤية كل من حضر أو سعى إلى إقامة هذا الاحتفال. والفيصلان، اللذان يؤمّان هذا التكريم، يعبّران الليلة نيابة وأصالة، عن النفس والحكومة والأسرة الكريمة، ويجسّدان بحضورهما وفاء الوطن لكل مخلص خرج من الوظيفة نزيهاً، شاخصاً بالأثر الطيب، أرضى الله فأرضى الضمير والمجتمع والقِيم، في زمن صارت الشواهد فيه، من نقيّ العملات. ولقد تعلّمنا من سلف الأمة، ومن سِيَر أفذاذها، أن الوفاء للموطن الأصغر متمّم للوفاء للوطن الأكبر، وعدّوهُ من مناقب النبلاء، يزيد المخلصين شرفاً في عيون مجتمعاتهم، ورفعة في أنظار قومهم، والمُكرّم الليلة، واحد من كثير يغالبه الحنين والوفاء لمسقط رأسه، مثلما كان الوفيّ المخلصَ لأمته وبلاده وملوكها، عمل على مدار خمسة عشر عاماً في الوظيفة القيادية، بتوجيه الملكين سعود ثم فيصل وإسنادهما، فترك بصمات لم تنسها فئات العمال، ومستحقو الضمان، ومنسوبو التعليم الفني والتدريب المهني، وظل المجتمع الرياضي يذكر له تنظيماته، ثم اجتباه الملك خالد سفيراً له في مصر، واختاره الملك فهد في التشكيل الحديث لمجلس الشورى. الليلة، لا نحتفي فحسب، بسيرة شخصية تركت بصمتها الواضحة في خدمة الوطن، لكننا في الواقع، نلتقي على مائدة من التاريخ، لنستظهر صفحات من سجل هذه البلاد بعامة، وهذه المدينة بخاصة، نستعيد ريادتها في ميادين المعارف وحقول شتى في الإدارة والاقتصاد، هذا التاريخ البعيد والحاضر الذي عرضه مركز ابن صالح في العديد من مناسبات التكريم التي أحياها. وأرجو أن تسمحوا لي، ونحن نتابع مناسبات التكريم التي ينظمها هذا المركز وغيرُه من المنتديات في أرجاء البلاد، أن أبثكم التصريح، وعن اقتناع، بأن الحب الإيماني للوطن بخافقيه الأعم والأخص، وأعني بهما المملكة الأم، ثم المدن والبلدات، هو استحقاق لا تحده حدود، ذروة سنامه التضحية بالنفس، كما عرفناها في شهداء توحيد هذا الكيان الكبير، وعموده بذل المال والجاه، والعطاء للوطن إحساس، يبدأ من العاطفة والوجدان، ويستمر بالعمل المخلص، ويتوّج بالوفاء، فكم من سمعة حسنة رفع بها المواطن قدر مدينته بين المدائن، وكم من مشروع خيري أو وقفي، ومن معلم تنموي أو استثماري، ومن كتاب أو كلمة أو قصيدة أو كُتّاب، أو بئر جارية للسُقيا، أو عمل تطوّعي في مسجد، أو توزيع رسائل، أو خلع نواجذ، أو تجبير كسور، أو قابلات سهرن الليل، سجلت أصحابها -على حد سواء- في طبقات المحسنين وسجلات الأوفياء وقوائم المتطوّعين والأخيار، والشواهد على كل ما ذكرت معروفة في سائر المدن، وعلى كل لسان. إن الكتاب الذي بين أيديكم مقروناً بالمقابلة المصورة، ليس كتاب سيرة ولا قصة حياة، لكنه بالأحرى، فصل مختصر من تاريخ وطن، وصفحة موجزة لنموذج من الرجال، قريبين من ربهم، بارين بوطنهم، قائمين على واجباتهم الإنسانية، فاحترت خلال فترة التأليف قصيرة المدى، فيما يمكن أن أختاره مفتاحاً لشخصية الكتاب، فوجدته في كلمة واحدة هي «الوفاء»، وهنا لن أزيد على ما في اللقاء المصوّر والكتاب المتواضع، سوى أن أقول: لقد حاصرتُ عاطفة القربى عند تأليفه، وكنت أود أن أضع شهادتي فيه كاملة، وأن أعرض على صفحاته شهاداتكم فيه، بقدر ما جسّدتم عنه محبتكم هذه الليلة، لكنه الوقت الذي طوّق العمل، والحياد الذي تحريته، معتقداً بموضوعية أن البعض الذي شارك فيه إنما عبّر عن شيمة الوفاء عند الكل، وواثقاً من أن حضوركم هذه المناسبة هو الوثيقة الأبلغ تعبيراً، من أي كتاب أو لقاء متلفز. وإن شخصية هذه الأمسية، مطالب من لقائنا هذا أن يكتب مذكراته مع مواقعه الوظيفية، ومع محطات حياته في مسقط رأسه، هذه المدينة التي تبادله وأهلها الليلة «وفاءً لوفاء»، وتمطر عليه من شآبيب الحب ما كشفته من قبل وستكشفه من بعد له ولغيره، في استحقاقات الوفاء المقبلة في هذا المركز. وبعد، أشعر أن من الواجب، في حفل تكريم مواطن اصطفته الدولة وزيراً وسفيراً وشوريّاً، وسكن الوطنُ في وجدانه، وارتفع بكرامة نفسه، واحتلّ مكانة موقورة في نفوسكم، أن أعبر لكم باسم أسرته أجمع عن تقديرها لحفاوتكم، وعن بالغ اعتزازها بنبلكم، وللجمعية الصالحية الخيرية بخاصة، ولكم - بالأخص - سمو الأمير والنائب لرعايتكم الكريمة ولحضور حرمكم، والسلام عليكم.
* * *
* بمناسبة تكريم الجمعية الخيرية الصالحية للشيخ عبدالرحمن اباالخيل مركز ابن صالح الاجتماعي بعنيزة، مساء الاثنين 10-5-1433هجرية (2-4-2012 م).
A.Al Shobaily