يدرك الراصد لتحولات النقد الثقافي قوة البصمة التي طبعها أ.د. عبدالله الغذامي على مفاهيم هذا المنهج وآلياته، وليس بوسع أحد أن ينازع الغذامي في سبقه تقديم هذا اللون من النقد إلى العالم العربي، وقد جاء عمله مزاوجا بين التنظير والتطبيق فأضحى جهداً يستحق الاحترام مهما اختلفت مع صاحبه في بعض وجهات النظر.
لقي الكتاب لحظة صدوره ردود فعل صاخبة، لكنها لم تكن بمستوى كتاب الغذامي، إذ كانت إلى الانطباعية أقرب منها للعلمية، ذلك أن الغذامي استجمع كثيراً من قوته في هذا المنجز، واستشار في أفكاره عددا من النقاد والهيئات العلمية. وكنت كتبت قبل عدة أعوام مقالا نشر في ثقافة الخميس بجريدة الرياض عنوانه: النقد الثقافي والمقاربة الجمالية، تحدثت فيه عن وجهة نظر أخرى لنقاد غربيين وعرب لا ترى تنحية الجماليات عند مقاربة النص الأدبي من الناحية الثقافية، وهو أمر يرفضه الغذامي تماما في كتابه (النقد الثقافي).
وعلى الرغم من الجهود الظاهرة التي يبذلها النقاد في المغرب العربي على صعيد المناهج النقدية الحديثة، لكن النقد الثقافي لم يلق منهم إضافة تذكر في هذا المجال، إذ لم يعد ما قدموه كتابين فيهما من المشكلات ما فيهما، أحدهما ألفه أ.د.سعيد علوش، وعنوانه: نقد ثقافي أم حداثة سلفية، وقد أفردته بمقالة أبنت فيها قذارة الوحل الذي خاض فيه هذا الناقد المسيء إلى نفسه قبل كل شيء، حيث لم يحترم تاريخه فأطلق لسانه بشتائم لا يرضاها الخلق الإنساني بله البحث العلمي الرصين.
أما الثاني فهو منجز أ.د. حفناوي بعلي (مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن) الذي ثارت حوله مشكلة السرقة العلمية؛ فأفقدت الكتاب قيمته على الرغم من الجهد الجيد الذي بذله المؤلف في الفصول الأربعة الأخيرة من الكتاب، فقد عالج في الفصل الخامس باحترافية علاقة النقد الثقافي بثقافة العولمة ليدلف من خلاله إلى الفصل السادس الذي شكَّل نقطة تحول في الكتاب، حيث ناقش فيه تواشج الأنثروبولوجيا الرمزية مع المنهجيات الثقافية. وكانت لمساته التي خص بها الفصل السابع ذات قيمة كبيرة فيما يتعلق بدرس الخطاب الإشهاري من وجهة نظر ثقافية، لقد تقدم باتجاه فصله الأخير: النقد الإيكولوجي (البيئي) بخطى متزنة كاشفا عن آفاق تعالقاته مع النقد الثقافي، ومبشرا باخضرار العلوم الإنسانية في ظل هذا التصاقب بين الاتجاهين. لكن تنكُّب جادة الأعراف البحثية والسطو البين الذي مارسه مؤلفه جعل تلك الأفكار تتضاءل وسط هذه الفضيحة العلمية المدوية.
رحل النقد الثقافي باحثا عن بيئة أكثر خصوبة يمكن أن يبني فيها قواعده، فاستقر به المسير في الأردن، حيث انبعثت هناك بحوث وكتب وأطاريح جامعية كثيرة تتخذ من هذا المنهج مناصا عند تلمس الإشارات الثقافية داخل بنية النصوص الأدبية.
كان الناقد أ.د. عبدالقادر الرباعي أستاذ النظرية والنقد الأدبي في جامعة اليرموك هو المحفز لأولئك الشباب على اقتحام حصن النقد الثقافي بعد أن أحكم الغذامي غلقه بعد فتحه، وكانت علاقة الجماليات بالأنساق هي الثغرة التي تم الدخول من خلالها إلى ذلك الحصن، ليشيد بناء آخر جنبا إلى جنب بجوار البناء الذي أقامه الغذامي.
لم تأخذ تلك الأعمال طابع الردود ولم تغرق كما غرق غيرها في الصخب والضجيج بل تلمست طريقها بتؤدة وتأن، وكان في طليعة تلك الأعمال كتب الصديق د. يوسف عليمات التي على رأسها (جماليات التحليل الثقافي: الشعر الجاهلي أنموذجا) و (النسق الثقافي: قراءة ثقافية في أنساق الشعر العربي القديم) وكنت في مقال سالف قد خصصت الكتابين بحديث يكشف عن الإضافة العلمية التي قدماها.
حظي الكتاب الأول لعليمات بتقديم من أستاذه الرباعي تحدث فيه عن الكشوفات المدهشة التي ضمتها أفكار الكتاب، ولم يكن الرباعي مبالغا فيما يقول، فقد أسعف عليمات ذكاؤه في تقديم قراءات ثقافية جديدة ومقنعة لكثير من النصوص التراثية.
لقد كانت فرحة الرباعي بجهد عليمات ظاهرة داخل الأسطر التي رسمها في صدر الكتاب، وإن مما يلفت الانتباه جمال تلك العلاقة بين الطالب وأستاذه فإذا كان تشجيع الأستاذ للطالب دافعا لتقديم المزيد فإن العكس أيضا صحيح، إذ غدت أعمال عليمات محفزة لأستاذه ليدلف إلى ردهات هذا المنهج، لم يعش الرباعي على مجده السالف، بل قرر أن يواكب الجديد الذي أصبح خياراً استراتيجياً لبعض تلامذته فألف في سنِّه المتقدمة كتابا سماه (تحولات النقد الثقافي) ليبرهن لتلاميذه ولقارئي كتبهم أن المقدمات التي يكتبها لهم ليست ذات طابع إنشائي، وإنما هي حصيلة بَصَر دقيق بخلفيات هذا المنهج وآلياته.
لم يقنع الرباعي بإسهام ضئيل يكون بمنزلة تَحِلَّة القسم، بل استحال شابا نشيطا «يرصد حركة النقد الثقافي منذ منتصف القرن العشرين حتى الآن، وقد أدت تلك الحركة إلى تفاعلات حادة بين فريقين: أحدهما يتمسك بالن قد الأدبي الجمالي، وهو الذي ساد منذ أن عرف الأدب، وآخر يطرح ضرورة الاهتمام بنقد الثقافة وكل تشعباتها وقد نادى بموت المؤلف « (تحولات النقد الثقافي ص7).
ومن تحت عباءة الرباعي خرجت رسائل علمية في جامعة اليرموك تتناول الأنساق الثقافية من زوايا نادة ومثيرة، لقد بُثت روح الخصوبة في مفاهيم هذا المنهج فغدا أكثر رونقا وإشراقا.
نجد ذلك واضحاً في منجزات الصديق د. أحمد المرازيق الذي لا يفتأ يتحفني بكل جديد يخطه يراعه، وعلى رأس أعماله كتابه الذي عنوانه (جماليات النقد الثقافي: نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي)، وينيف هذا الكتاب على ثلاثمائة صفحة قدم فيها قراءة جديدة للنص الشعري الأندلسي من زوايا ثقافية.
لقد كشف الكتاب عن أهم التشكيلات الثقافية والجمالية لذلك الشعر، وقدم قراءة للأدوات المعرفية التي تسلح بها الشعراء في مواجهة ما يعترض حياتهم من مصاعب وأخطار.
جاءت أبواب هذا العمل النقدي ضاربة في العمق منذ اللحظات الأولى، فقد يمم المرازيق في الباب الأول شطر موضوعات الصراع في قياس ذكي للمسافة بين ثقافة النص وثقافة التأويل سواء أكان هذا الصراع إنسانيا أم مع المكان والزمان.
وفي الباب الثاني دلف المرازيق إلى مركزية الصراع محاولا تلمس الجانب الضدي؛ فعقد فصلا لتنافر الأضداد، ثم أعقبه بثان يدرس فيه المفارقة الشعرية في البنية الأندلسية، وداخل هذه الضدية لم يغفل عن أثر الاستعارة التنافرية في بنية الأنساق المخاتلة في الشعر الأندلسي، حيث خصها بالفصل الثالث من هذا الباب. ولأن جانب المراس مع النصوص من أهم التحديات التي تعترض طريق الباحث فقد أفرد بابه الثالث لذلك؛ فقدم معالجات تطبيقية ناجحة لثلاثة نصوص من الشعر الأندلسي هي: نونية ابن زيدون ورائية ابن دراج ورائية ابن شهيد.
تسلح المرازيق ثقافيا بشكل يستحق الاحترام وهو يفتق تأويلات تلك الأعمال الأدبية، إذ انطلق من طبيعة الأثر الأدبي، ولم يفرض عليه مقاسات لا تناسبه، بل اختار من تلك الآليات ما يساعده على فتح مغاليق النص.
لقد كان الرباعي مصيبا حينما أكد على أن جهد المرازيق « حلقة في هذه الدراسات الجادة التي تركز على الأنساق الثقافية في وظيفتها الجمالية « منوها إلى أن « الرحلة التأويلية التي جربها المرازيق أظهرت قدرة فائقة على التحليل الباطني للنص « (الكتاب ص10).
ولا أظنه بالغ حينما وصف برهنة المرازيق على جدوى استعمال تلك الآليات بقوله: « إن قراءته للنصوص أظهرت براعة على محاورة الأنساق الثقافية والجمالية وسد الفراغات وإملاء الفجوات بالظاهر والمضمر والثابت والمتحول حتى بات النص الشعري بين يديه قطعة من الحياة بشخوصها وأحوالها ودروبها المعقدة والسالكة « (الكتاب ص11).
ولعل مقالات قادمة بإذن الله تكشف عن مزيد من الدراسات الثقافية في هذا القطر الذي حقق انتفاضة تصحيحية على صعيد الدرس الثقافي.
الرياض