(أ)
ليس كشفاً أنّ الخصوصيّةَ قوامُ المفهوم الشموليّ للثقافة، والمعوّل عليها في إزاحة التراكم التعريفيّ للثقافة، الذي يؤثّر في قيمتها حين تتماهى وتفقد وظائفها. وأيّ قيمة لشيْءٍ لا وظيفة له! والرأيّ بأنّها: (العادات والتقاليد والأعراف التي تخصّ جماعة ما دون أخرى) يوشك أن يعادلها بالحياة؛ ولكنّ الخصوصيّة تبقى ضمانة من سقوط المفهوم في فوضى الترادف وفقدان الوظيفة.
وقيمة الخصوصيّة ناجمة عن الخلط بينها وبين الهويّة، وعن ظنٍّ يتوهّم: (أنّ زوال الخصوصيّة يمحو الهُويّة)، ممّا يختزل عناصر الهُويّة بعنصرٍ أيّاً كانت قيمته إلاّ أنّ الهُويّة لا تتأثّراً وجوديّاً به، لأنّها قادرة على الإتيان بغيره.
وهو ظنٌّ مبنيٌّ على: عدم التفريق بين الخصوصيّة كتأويل خاضع للتحوّل والتغيير وبين الهويّة الثابتة.
لذلك فإنّ أيّ تعدّ عليها –تهديداً- بإزالتها يُوحي بالتعدّي على الهُويّة.
ويبيّن البحث في نشأة التأويليّة الخصوصيّة وعلاقتها بصراع الملكيّة أسباب ارتباط الإنسان بالهويّة كإثبات وجوديّ للملكيّة، وارتباطه بالخصوصيّة كحُجّة الملكيّة.
فما هي الخصوصيّة الثقافيّة المتجاوزة لعناصر تمثيل الهُويّة (اللغة، الشكل، العرق)؟ لئن كانت الخصوصية الإنسانيّة تميّزه عن الحيوان بحيث إنّها: منظومة الوعي التي يختصّ بها دون سواه، والمسؤولة عن اختلاف أعماله وأشيائه - وهي مسألة الحلقة الداروينيّة المفقودة: كيف حدثت الطفرة ولماذا تأنسن البشر دون سواهم؟- فإنّ الخصوصيّة الثقافيّة تميّز إنساناً عن آخر، عن طريق التأويليّة الخصوصيّة، وهي المعاني التأويليّة والقيم المجازيّة الواقعة على الأفعال والأشياء من خارج طبيعتها.
ولم تولد عن طفرة إنّما تزامناً مع تطوّر الوعي عند ظهور صراع الملكيّات، وهو ما يفسّر ثقفنة الإنسان اختلافاً عن إنسان آخر، لأنّ شيئاً في الخصوصيّة يؤهّلها أن تكون حامية لأشيائه وأفعاله.
(ب) يبيّن تفكيك مفهوم الثقافة الشمولي عناصرها الظاهرة والمضمرة: (الأفكار قبل الأفعال) و(المعاني قبل الخصوصيّة) و(التأثير قبل الجماعة)، وأوّل ما نلاحظه أنه يعتبر أفعال (العادات، التقاليد، الأعراف، الطقوس..) دالّة على الخصوصيّة، لكنّه يتعامل معها ترادفيّاً على الرغم من تنوّعها ممّا يضرّ بالخصوصيّة محواً بينما هو يريد المصادقة عليها، إذ لا يفرّق بين أفعال إنسانيّة من (خارج الثقافة)، وأخرى من (داخلها)؛ ولعلّ منظّري الثقافة على أنّها (طريقة في الحياة) مُلْزمون بهذا التعارض المعيب الذي لا نتبنّاه لعلّتين: (أ) علّة في تعارضه مع مفهوم الخصوصيّة (ب) وعلّة في فقدان وظيفة الثقافة إذ تتماهى بالحياة.
لذلك فإنّ التفريقَ في السلوك الإنساني ضرورةٌ في فهم التأويليّة الخصوصيّة، بحيث إنّ السلوك الإنساني يتوزّع بين: (أ) سلوك غرائزيّ يتساوى فيه الإنسان مع الحيوان.
(ب) سلوك إنساني واعي يتميّز به عن الحيوان.
(ج) سلوك ثقافي حامل لتأويلاتٍ يتميّز بها إنسان عن آخر.
كما أنّ التميّيز الدالّ على الخصوصيّة لا ينشئ من مجرّد وجود الفعل -وإن اختلف في أشكاله وطرائقه- بل بما نُسِبَ إليه من خارجه من معان تخصّ (فرداً أو جماعةً)، وبها يتميّز في ملكيّة الفعل والشيء عن غيره، وهذا المعنى التأويليُّ ليس كائناً في الفعل أو الشيء محلّ التأويل؛ فلا خصوصيّة داخل الأفعال الإنسانيّة تفرّق بين إنسان وآخر، وإن وجدت لتعادل فيها الجميع وفقدت منطقيّة توصيفها بالخصوصيّة، لكنّ (الفاعل) إن منح (الشيء والفعل) تأويلات ليست من طبيعتهما، فإنّ التأويليّة الخصوصيّة تكون مسؤولة عن أيلولة ثقافيّة في صيرورة الأفعال والأشياء من مضامينها الأصليّة إلى مضامين (تخصُّ الفاعل-المُؤوّل).
فما من خصوصيّة إنسانيّة ولا ثقافيّة في شُربِ الماء، لكنّ حملانه على معنى الغفران في ميقات معيّن، أو معنى الخلاص من الخطيئة، هي تأويليّة خصوصيّة لجماعات مختلفة ما كانت لتكون لولا صراعها على ملكيّة الماء، والمفارقة إذ ينتهي الصراع وتبقى التأويليّة سائدة بمعزل عن سبب نشأتها الزائلة.
فالمعاني الداخليّة (للشيء) تُسقط في مرافعات الملكيّة نظراً لتعادلها لدى الأطراف المتنازعة، فلا يُفصل النزاع دون تأويليّة خصوصيّة توجد عند طرفٍ ولا توجد عند الآخر.
هكذا تتّضح خلفيّة الصراع على الثقافات أنّها صراع ملكيّة، وما التأويليّة إلاّ إبرازاً للهُويّة، فكلّما ارتبطت الهويّة بالأشياء وبالأفعال المتنازع عليها عبر حجّة التأويل والمجاز زادت شرعيّة النزاع.
وشيء من هذا: في نشأة الهويّة الأمريكيّة فوق طمس هُويّات السكّان الأصليّين ممّا أدّى إلى فقدان ملكيّاتهم، وتمكّنت الهُويّة الناشئة من الغلبة وحسمت صراعها على الملكيّات تحت حجج التأويليّة الخصوصيّة (لمجتمع أرض الأحلام)؛ بينما فشل الإسرائيليّون في إنهاء الصراع مع الفلسطينيين لعجزهم على طمس هويّتهم، فغلبة الهويّة الفلسطينية وهزالة الهويّة الإسرائيليّة عاملاً يقاوم الاحتلال في حسم الصراع.
(ج) على قدر ما تزداد الأفعال والأشياء المؤوّلة خصوصيّاً فإنّ ضيقاً يصيب (المساحة الخارجة عن الثقافة) والتي يمكن أن تلتقي فيها مع الثقافات المختلفة، ممّا يزيد من حصار الهُويّة (للأنا) حدّ الاختناق، فحينما تخضع أفعال الحياة البسيطة واليوميّة للتأويليّة الخصوصيّة فإنّك لا تتوقّع انسجاماً بين هكذا ثقافة وأخرى، ممّا يفسّر نفور ثقافتنا من كلّ مغاير ومخالف لشدّة تأويلاتنا الخصوصيّة لجميع أفعالنا وأشيائنا؛ وهي إمّا تأويلات ناشئة عن صراع ملكيّات تلاشى، وأخرى متضخّمة ناشئة عن رُهاب فقدان الهُويّة.
لذلك فإن إصلاح الثقافة يتمّ بالفصل والتفريق بين الخصوصيّة الغائيّة المتحوّلة وبين الهويّة الثابتة، ممّا يُفضي لتجاوز تأويلات رُهاب فقدان الهُويّة، وأخرى فقدت أسباب وجودها، ممّا يُحرّر الأفراد والمجتمع من ثُقل حمولات التأويل، حيث إن ازدياد التأويليّة يقلّل من فرص الإنماء الإنسانيّ والتعايش السلميّ، فأيّما أفراد يعيشون بحدّ أدنى من الخصوصيّات فإنّ التعايش هو الأكثر توقّعاً، مقارنة بأفراد مكبّلين بأغلال التأويليّة الخصوصيّة في شتّى نواحي حياتهم، ممّا ينتج تصادماً بين الخصوصيّات والملكيّات.
وهذا ما تحاول حالة (مابعد الثقافة) العمل في نطاقه، حيث تعمل على تجريد الأفعال والأشياء ممّا لحقها من تأويلات ما كانت لتكون لولا رُهاب فقدان الهُويّة وأخرى انتهت علّتها.
فلماذا تبقى المعاني التأويليّة بعد زوال علّة نشوئها؟ وهو ما تراهن عليه حالة (مابعد الثقافة) للخروج من أغلال التأويل تعايشاً مع أفراد آخرين يعتقدون بقيمة الخروج في إتاحة فرص تقاربيّة سلميّة، ممّا يؤفّر مفاهيم جديدة لحياة يتجاوز فيها الإنسان المواطنة المكبّلة بالتأويليّة الخصوصيّة، بعد أن تجاوزت المواطنة مفهوم القوميّ، (فمابعد المواطنة) لا تعني (المواطنة العالميّة) كما يُمكن أن يُظنّ، بل تعني (الهُويّة المحضّ فرديّة).
ولا يمكن اعتبار أنّ العولمة كانت سبباً رئيساً في حالة (مابعد الثقافة) لأسباب في طبيعة الحالة، الموجودة تاريخيّاً في تأسيس ثقافات على أنقاض ثقافات زائلة، ولها يُعزى الفترات الانتقاليّة بين ثقافة وأخرى؛ لكنّها كانت تخرج من تأويليّة خصوصيّة إلى أخرى.
بينما هي اليوم –في ملامحها ووقائعها- تأخذ سيرورة مختلفة، حيث تسعى لتجاوز التأويل دون اشتراط تأويل بديل، ولسنا ندّعي أنّها في صدد تكوين (ثقافة) إلاّ كونها (لا تنتمي لثقافة محدّدة)، وليست وسيلة لتأسيس مجتمع يلمّ أفرادها، إذا تبقى (فرديّة-وجوديّة) لأنّ تأسيس المجتمع يستوجب التأويليّة الخصوصيّة وهو ما تتخلّص منه (مابعد الثقافة المعاصرة) إلاّ في حدودٍ ضيّقة، وهذا ما يُحرّر (مابعد الثقافي) المتجاوز والخارج عن تبعيّة التأويل والانتماء، بمعنى رفع الوصاية نهائيّاً والتحرّر من أغلال التأويلية الخصوصيّة للثقافة.
* * *
(*) من كتاب يتمحور حول (مابعد الثقافة) يعمل عليه الكاتب، ويتوقّع إصداره بداية العام. – جدّة
Yaser. hejazi@gmail. com
جدة