وليت مشكلات الإرشاد الأكاديمي تتوقف عند هذا الحد، بل تتجاوز ذلك إلى ما هو أعظم وأخطر، فكثيرٌ من المرشدين يَجهل العديد من أنظمة الدراسات العليا ولوائحها، وهو ما حصل مع أحد الزملاء بصفةٍ خاصَّة، فحين أنهى الرسالة العلمية وخرجتْ من مَجلس القسم فوجئ هذا الزميل بأنَّ مَجلس الكلية يُعيد إليه الرسالة بِحُجَّة أنَّ النظام لا يُجيز تقديمها إلا بعد مُضيِّ ستة فصولٍ دراسيةٍ من دراسة الطالب للسنة المنهجية، وقد أفاده مشرفه -الذي كان مرشداً أكاديمياً له قبل ذلك- أنه لَم يسمع بِهذا النظام من قبل! ولو لَم يكن حينها في نِهاية الفصل الدراسي السادس لاضطرَّ إلى الانتظار لأكثر من خَمسة أشهر، وإذا لم يعرف طالب الدراسات العليا من مرشده الأكاديمي هذا النظام وأمثاله فإنه حتماً لن يَجده يوماً يُذاع في نشرة الأخبار!.
ولذا ينبغي على المرشد الأكاديمي ألا يقتصر في إرشاده على استقبال موضوعات الطالب والنظر فيها، بل يُفترض أن تتجاوز مُهِمَّته ذلك إلى توعيته بالأنظمة واللوائح التي يرى أنَّ الطالب لابُدَّ أن ينتبه لَها؛ كي لا يقع في مآزق نظامية إضافة إلى ما قد يكون فيه من مآزق علمية، وهنا يكون المرشد قد أنجز دوره المناط به، وأدَّى الأمانة التي حُمِّلها، ويكون الطالب قد أفاد من مرشده، وتكشَّفتْ له من خلاله كثيراً من الأمور العلمية والنظامية والأكاديمية، وانفتحت له فضاءات الاستهلال في مشروعه العلمي وهو في كامل الوعي، وعلى أتم الاستعداد.
وهناك مشكلةٌ أخرى وكبرى تتصل بالإرشاد الأكاديمي، وهي من المشكلات التي تبدأ مبكراً مع طالب الدراسات العليا، وتنبع هذه المشكلة من القسم المختص الذي ينتسب إليه الطالب الذي يتفاجأ بتلك الوصاية الإدارية التي تُفرض عليه من قِبَل هذا القسم، وذلك حين يتكفَّل باختيار مرشدٍ لكلِّ طالب، دون أدنى مراعاة لتوجهات الباحث، ومدى الانسجام الذي سيكون بينه وبين مرشده، وأعتقد أنَّ أدنى حقوق الباحث -الذي وصل إلى هذه المرحلة العلمية العالية- أن يَختار بنفسه المرشد الذي يرى أنه ينسجم مع توجهاته وشخصيته وتَخصصه الدقيق الذي يطمح أن تعالِجه أطروحته العلمية، ولا ريب أنَّ هذا الحق يتأكَّد بشكل كبير إذا كان الطالب واعياً بتوجهه والمجال الذي يرغب أن يبحر فيه، فكم من باحثٍ متوقِّد الذهن، ومُتفتِّح التوجُّه وقع تَحت سطوة مرشدٍ تقليديٍّ منغلق، لا يقبل التجديد، فكسر طموح الباحث، وأغلق الباب في وجه فكره المتفتِّح، وكم من طالبٍ اُبتلي بِمرشدٍ لا يفقه إلا القليل في التخصص الدقيق الذي يرغب فيه طالبه، ومن ثَمَّ تقع المشكلات بينهما، فلا المرشد يريد أن يُظهِر قلة علمه، ولا الطالب يرغب في التنازل عن تَخصصه، وإذا كان هذا المرشد يعي هذه الإشكالية فإنه في أفضل الأحوال سيظل عاجزاً عن مدِّ يد العون إلى هذا الطالب الذي سيبقى مُتخبِّطاً، لا يَجد مَنْ يرشده، ولا يلقى مَنْ يأخذ بيده إلى جادَّة الصواب، فيضيع الوقت، وقد يضيع معه مشروعه البحثي، وأحلامه العلمية.
إنَّ القريبين من الإرشاد الأكاديمي من طلاب وأساتذة يعون تَماماً أنَّ المرشدين في جامعاتنا يُمكن تصنيفهم إلى ثلاثة أنواع؛ النوع الأول: مَن يستحقُّ أن يُطلق عليه (المرشد الصارم المتطرف)، وهو مَن يَجعل يده مغلولةً إلى عنقه، ويُقيِّدها بِحبال الصرامة، فيجعل الباحث يتخبَّط لوحده في بَحرٍ لُجيٍّ كسفينةٍ بلا رُبَّان، يظنُّ بِهذا أنه يصنع الباحث الذي يعتمد على نفسه، وربَّما اكتفى بدور المصحِّح اللغوي أثناء كتابة البحث، فلا يدلُّ على مرجع مُعين، ولا يُوجِّه إلى فائدة علمية، وهذا الصنف يستخسر الباحث أن يضع اسمه على غلاف البحث؛ كونه لَم يأخذ بيده ليضع أهمَّ خطواته على الطريق الصحيح، وثَمَّة مَنْ يستحق أن يُطلق عليه (المرشد الوصي) وهو النوع الثاني من المرشدين، وما أكثرهم! وهو الذي يبسط يده كلَّ البسط، فيُلغي وجود الباحث تَماماً، ويقوم بكافَّة المهام البحثية، بدءاً من اختيار الفكرة والموضوع الذي لا يعي الباحث فيه قبيلا من دبير، إلى وضع الخطة، بل يصل الأمر إلى أن يتحكَّم بسير كتابته حسب المنهجية العلمية والأسلوبية التي عُرف بِها المرشد، حتى إني قرأتُ رسالةً لِمُرشدٍ ورسالةً لباحثٍ أشرف عليه هذا المرشد، وكأني أقرأ رسالتين لشخصٍ واحد؛ لتطابق الأسلوب والمنهجية بشكل واضح لا خفاء فيه، ويظهر من خلال هذا سطوة المرشد على شخصية الباحث ووصايته عليه، وهذا النوع من المرشدين يصنع الباحث المتواكل، وهو مطلب الباحث المهمل! وبين هذا الإفراط والتفريط يأتي النوع الثالث: وهو (المرشد المتوسط) الواعي بِمهامه، المدرك لِمسؤوليته وحدودها، فيأخذ بيد الطالب بلا إفراط ولا تفريط، ويكفل له استقلاليةً علمية، فلا صرامة تضيعه، ولا وصاية تلغيه، وهذا هو النموذج المطلوب لصنع الباحث العلمي الواعي ومرشد المستقبل الذي وج د الشيء فأعطاه.
وما دام الحديث في سياق مشكلات الإرشاد الأكاديمي فإن من أبرز تلك المشكلات أيضاً ما يُلاحظ من شكوى بعض الباحثين من فرط قسوة المرشد والتعالي في نقده وتقويمه، وهذا المشرف يُكلِّف الباحث ما لا يُطيق، ويظنُّ به الكمال العلمي، فيعجز الباحث عن الصعود إلى المرشد، ويتعالَى المرشد عن النزول إلى الباحث، فيقابله بلسانٍ من حديد، يكسر ما يَحتاج لتقويم، ويُنفِّر مَنْ كان مقبلا، ويكسر أجنحته، حتى يظنُّ كلَّ الظنِّ أنه لا يستحق التحليق في فضاء العلم والبحث، وهو في الحقيقة أهلٌ لذلك، غير أنَّ سقف طموحات بعض المرشدين تَحتاج لِملائكة وليس باحثين، وكأنَّ المرشد وُلد وفي فمه ملعقةٌ من علم! ويتناسى أنه كان كذلك من قبل أن يَمُنَّ الله عليه! وإن كان النقد ضرورةً في هذا المقام، ففي اللباقة النقدية مندوحة لا تكسر النفس، ولا تنفِّر من العلم!.
هذه بعض هُمومٍ وآلامٍ يعانيها كثير من طلابنا وطالباتنا في بُحوثهم العلمية، سواء أكانت في مرحلة الماجستير أو في مرحلة الدكتوراه، وهي مشكلات ينبغي الوقوف عندها طويلا، ويَجب أن يعي المسؤولون أهَميتها وخطرها؛ كونَها تتصل بِهذه النخبة المتميزة من شباب هذا الوطن المعطاء، خصوصاً أنَّ هذه المشكلات تكون في بداية طريق هؤلاء إلى تَحقيق مشروعاتهم العلمية التي يَخدمون بِها وطنهم وأمتهم، وما لَم يتمّ الالتفات الجادّ إلى هذه العوائق ومُحاولة إيجاد الحلول لَها فإنَّ عجلة التعليم ستتعثَّر، وسيظل كثيرٌ من المشروعات البحثية موؤداً لا تَجد مَن يدفع بِها إلى حيِّز الوجود.
* Omar1401@gmail.com
الرياض