أترحم على الكاتب الكبير فوزان صالح الدبيبي رحمه الله، أعرف أن البعض قد لا يعرفه، مع أن له تاريخًا حافلاً مضيئًا، أتاح له القدر لفترة قصيرة من عمره، أقل من عقدٍ قبل رحيله المفاجئ، أن يكتب افتتاحية صحيفة الرياض، ويشارك بظرفه وخفة دمه في زاوية (غرابيل) اليومية، يفضفض ويترك لقضايا المجتمع أن تتسرب بين حروف اللغة الساخرة بعيدًا عن الكتابة السياسية، وقد دفع شطرًا من عمره في محرقتها، وكانت قراءته المجتمعية، وما يتسرب حينها من بين حروف غرابيله الساخرة، ما يدعو إلى الغرابة حينًا، وإلى الجدل لعمق وحرارة ما يكتب لئلا يظن بي أحد سوءًا، ويؤول استحضار رحلة وسيرة الراحل الكبير أهم من القضية، فلست إلا مستشرفًا أقواله وصدق رؤيته..!
أبو صلاح رحمه الله، من الذين ينطبق عليهم القول (قلّ كلمتك وأمشّ) وكان يقولها بظرف وحرية وحكمة، تكبرُ فوق التفاصيل الهشة اليومية والبهرجة الزائفة، ونضحك للمفارقة في الرؤية ولكشفه المستور، وكان لبصيرته أن ترى قبل ثلاثة عقود، حمولات وتحوّلات مجتمعية واسعة، وتداول أجيال الحضور والفاعلية، وتوالد قضايا قائمة تتوسع بين جناحي المجتمع الذكوري والنسائي، وتتشكل حينها في حالات العنوسة المزمنة أو الطلاق، فكان يقول عليه رحمة الله من باب التندر والسخرية، لو بيد نسبة كبيرة من شرائح المتزوجين، وتخلين النساء بالذات عن الحياء، وملكوا الجميع الحرية، بلا سلطة مجتمعية في خياراتهم، لطلقوا بعضهم بعضًا! قضايا المجتمع السعودي لا تتوقف على معدلات الطلاق والعنوسة، ولكنها شاسعة ومتنوعة، وعصية على الحل وموجعة، وقد أعود إلى الموضوع في زاوية قادمة، ولكن فلتعذرني عزيزي الكريم قارئ هذه الحروف، حينما تجدني مغردًا في غير فضائي الأدبي، الذي تعوَّدت أن أحلق فيه وأكتب عنه وليس بهذه المباشرة، فأنا أكتب الآن من مطار جدة الدولي وبي حالة عالية من القلق والإرباك والقرف، وقد قضيت خمس ساعات بالتمام والكمال إلى الآن، أتنقل في صالات المطار متفحصًا وجوه موظفي الخطوط السعودية، وقد حدث معي فصل آخر في مطار الرياض ونسيته لظني أنه عابر، فكان حريًا بي أن أكمل موضوع الزاوية من حيث بدأت، والخوض في تفاصيل الماضي مستلهمًا الحاضر، ولكن كيف بي أكتب والحاضر يفرض نفسه بقوه، والفساد والفوضى ومصادرة الحقوق والتهميش والاستلاب، عناوين يمكن أن تجدها في كل مكان وبالذات، المؤسسات الحكومية التي لها علاقة بحياة الناس ومعيشتهم، ونجد هذه الحالة بارزة في المستشفيات بالذات، وكأن أرواح الناس مجانية، حينما يكون صعبُ جدًا أن يكون مريضًا، ويطلب منه الانتظار ثمانية أشهر ليتم بعدها الكشف عليه وليس لعلاجه، وكأن المرض والموت في إجازة حتَّى تفوق مستشفياتنا وتلتزم بمواعيدها، وتعرف قيمة الإِنسان من دون تمييز بين مواطن ومواطن، وصعب أن تجد في كل الأجهزة الحكومية ذات العلاقة المباشرة بحاجات الناس، موظفًا مهمًا أيًا كان منصبه أو موقعه لا يملك اللغة الابتزازية، وقد تجاوزنا لغة راجعنا بكرة فالحقوق صارت تسلب وتنهب.
أما الخطوط السعودية في هذا الوطن فحدث ولا حرج، ببساطة جدًا تفقد مقعدك ويأتيك الجواب، لقد ألغي حجزك الذي ليس لك دور في إلغائه، وعليك أن تلف السبع لفات، تتوسل لهذا وتترجى ذلك دون فائدة، وببساطة جدًا يمكن أن تجد نفسك في رحلة، وأمتعتك وعفشك في رحلة أخرى، لا تعرف موعدها ولا ساعة وصولها، وعليك أن تتردد على المطار لتسرد أمتعتك وحقائبك، حدث هذا معي هذا الأسبوع، وقد أوقعني حظي السيئ في قبضة الخطوط السعودية، وكنت أسمع حديثًا عن معاناة الناس البالغة، ولكني لم أكن أتخيل أنها بهذه الرداءة وهذا السوء، لا أتحدث عن أشخاص ولا عن سلوكيات، بل أتحدث عن نظام عمل، فالناقل الوحيد في بلادنا يُعدُّ من أوائل الأجهزة التي تستخدم التكنولوجيا الحديثة، ولكنها للآسف الشديد نقلت عاهاتنا وأمراضنا الاجتماعية إلى هذه التقنية الحديثة، فلو كانت القيادة في الخطوط السعودية تهتم بهذا، لأمعنت فيما يكتب عن خدماتها السيئة عبر هذه التقنية، وشعرت بنبض الناس ومعاناتهم مع ما تقدمه لهم من خدمات مجحفة جدًا وغير عابئة لا بالإنسان ولا بالزمن، وعرفت كيف تطوع هذه التقنية لصالحها، وتحسين أدائها وصورتها بين المواطنين، ولكن ولي الحق أن أطرح السؤال، كيف لو كان ما يحدث من ممارسات وإجحاف، بحق المواطنين من قبل الناقل الوحيد للمواطنين على رحلاتها الداخلية، يتم عبر الرحلات الخارجية مع من ركابها في الدول الأخرى، هل كانت ستتصرف بنفس السلوك من حيث تأخير الرحلات عن مواعيدها المحددة، وسرقة الحجوزات وتحويلها إلى ركاب آخرين، فكيف سيكون عدد حجم القضايا التي ستجدها الخطوط السعودية مع رعايا تلك الدول؟، أعتقد أنها ستكون كارثة على ما نسمعه ونعيشه من كوارث الخطوط السعودية.
جميل أن تجد لك مقعدًا بعد أن يرفعوا الضغط، لكن المؤسف حينما تربط حزامك مطمئنًا أن آخر مصائب الخطوط انتهت وتنتظر الإقلاع، فيأتيك صوت من كبينة الطائرة ممزوجًا مع صراخ وبكاء الأطفال، يرجو من الركاب الانتظار في مقاعدهم ساعة، لأنَّ الطائرة ستتأخر ساعدها عن موعدها، فترتفع الأصوات من داخل الطائرة مرددة (ما عليكم شرهة هذه عوائدكم)، حينها نسيت أننا مقبلون على موسم صيف وإجازات، وتكدس في مطارات حالها يشكو لله لأنَّ خطوطنا العزيزة، تُعدُّ هي الناقل الوحيد غصبًا عن اللي ما يرضى، فقد تذكّرت مقولة صديقي الراحل الكبير أبو صالح رحمه الله، والتفت إلى جاري الغاضب، وقلت له ما قال فوزان بتصريف، لولا (الحاجة) الآن، وليس (الحياء) كما قال فوزان حينها، لطلق معظم المواطنين السعوديين الخطوط السعودية طلاقًا بائنًا...
الرياض