عندما أتيحت لي الفرصة لأن أكون مقدما لإحدى أمسيات الشاعر الأمير خالد الفيصل (أقيمت في تبوك) وجدتني أكتب كلاما لا هو بالشعر ولا هو بالنثر كان كلاما يتدفق في الكلام، كلاما يشبه خالد الفيصل أكثر مما يشبهني فقلت مخاطبا الشاعر والشعر والجمهور:
السلام للشاعر!
ومثله للشعر!
وآخر للجمهور!
الشعر أيها الجمهور هو أمير الكلام وسيده!
والأمير أيها الشعر - هو الناسك والعاشق والجارح والمجروح!
والجمهور أيها الأمير - هو قوت الشعر، وهو نسيجه وعروقه المكتظة بالفرح وبالهجير وبالحياة!
ويحق لي بأن أنادي بأعلى صوتي:
إن هذا الأمير يليق بهذا الأمير: الأمير من الناس والأمير الشعر، أمير الكلام!
فأميران يهطلان فوق رؤوسنا مطرا وحبا، وريش نعام
والشعر كما تعلمون أو تفهمون، هو ديواننا، وهو علمنا، وهو شوقنا وخوفنا، صحونا، وإغفاؤنا، ألمنا وطموحنا. ضحكنا وبكاؤنا.
الشعر هو نحن واقفين تحت الشمس، نتشرب عطر الرمل، ونستنشق ورد المستقبل.
ولولا الشعر لما استطعنا مقاومة اليأس!.. أو مكابدة الظلام!.. أو معانقة البرق والرعب والعاصفة!
ولولا الشعر ما كان للعشب رونقه، وللياسمين عذوبته، وللغناء صوته، وللحروف لؤلؤها، وللفواصل ألقها، وللمعاني غواياتها!
لولا الشعر ما كان لخيل شموخها، وللسيوف بريقها، وللنقع طعمه، وللدم رائحته، وللموت شهوته وذروته ولذته.
لولا الشعر ما كان للعطر سطوته، وللكلام مضاؤه، وللأمل أطيافه وللوعد نشوته، وللوصل بهجته، وللقبلة دمها السائل الثائر المندفع كاللهب!
لولا الشعر ما كان للحمامات هزيجها، وللإبل حنينها، وللجداول أنينها، وللريح عنفوانها، وللطيور عنفوانها، وللفراشات رقصتها، وللنساء ملكوتهن الذي لا يلجه إلا هالك، أو هالك، أو هالك!
أيها الشاعر، هذا هو الجمهور الواقف ببابك، المتكالب على أعتابك، الثمل بكلماتك، النازف بأوجاعك، الحالم بلواعجك!
أيها الشعر يا أمير الكلام هذا هو الشاعر أمير الناس، سوف يخطفنا الآن من ذهولنا، وسوف يعفر وجوهنا بالعطر، وسيصبغ ثيابنا بألوان قوس قزح، وسيملأ جوانحنا بالحنين!
سوف يفر بنا إلى حقوله، إلى أحلامه، وإلى ممالكه وإمبراطورياته، وإلى مبالغ النور في وجدانه!
سوف يعلمنا اليوم - كما علمنا دائما - قواعد الهوى وأصول الغرام!
سوف يعلمنا الغناء والحداء والبكاء!
سوف يعلمنا الرقص على حافة الموت، والموت اللذيذ الذي ما فتئنا أبدا نشتهيه!
سيعيد إلينا وعينا بالوردة! وسيعيد إلى الوردة وعيها بالحقل.. وبالسيف!
هل قلت : السيف ؟!
ذلك نعم، قلت!
هذا هو «دايم السيف».. أمير الناس وأمير الكلام!
دايم السيف الذي ما برح يفك فينا «عقدة» الكلام، حينما يلتقي الوجه بالوجه فيضيع منا الكلام!
الذي نسطو دايم السيف عنوة على كلماته، حينما نضع الكف بالكف، فتتبدد كلماتنا وتتلاشى!
دايم السيف الذي نسرق منه صوته، حين تلتقي العين بالعين، فتختفي تماما أصواتنا.
دايم السيف الذي عندما يحتدم الحب يعيد إلى شراييننا دماءها، وإلى قلوبنا نبضها، وإلى كلماتنا وهجها، وإلى اكفنا حرارتها، وإلى عيوننا تدفقها وتحدياتنا.
خالد الفيصل بن عبد العزيز! هو شعرنا بالغترة والعقال!
أنشدنا الآن يا سيدي! أحلى الكلام!..
فأنت أنت - ورب الكعبة! - أمير الكلام.
***
خالد الفيصل وسراج عمر والخزندار.. قدموا لنا في الجنادرية ملحمة فنية رائعة: كلمات وموسيقى وإخراجا. كل شيء كان في ذروته : المعنى والتعبير والمؤثرات. وكل شيء كان في عنف اكتماله: الصوت والكورال والإضاءة، أما الأداء الغنائي المنفرد، فقد كان فرسانه الخمسة في أحسن حالاتهم انسجاما مع الاحترام الملحمي الشامل الذي جسده الأوبريت.
والذين يتابعون شعر خالد الفيصل يعرفون أنه من الشعراء القلائل الذين يقفون باقتدار فوق قمة هرم القصيدة النبطية في كامل هيبتها وبكل ما فيها من صرامة، مع الاحتفاظ للأمير الشاعر بكل ما له من قيم تجديدية، ليس لها إلا أن تنسب إليه وحده، لكن خالدا الفيصل في هذا العمل الفني الثقافي خرج إلى الناس في إهاب جديد
***
قلت لخالد الفيصل مرة: إن قصيدة «المعاناة» هي واحدة من قصائد «الفحولة» في الشعر النبطي، أما موضوعها ففي غاية الصعوبة بل هو - في الأصل - ليس موضوعا شعريا، فإن تستطيع أن تحوله إلى مادة شعرية، فهذه لا شك قدرة هائلة لا تتوفر في جمهور كبير من الشعراء.
***
وأنا أظن أن لغة «الشعبي» نفسها هي من الفسحة والرحابة والسخاء بحيث تجد في قاموسها وفي مجازاتها ما يغطي بيسر وسهولة مثل تلك «المعاني» الدقيقة البالغة التعقيد. هل أقوال أن لغة «الشعبي» «لغة ميسرة؟ أو هي لغة غير متزمتة في شروطها؟ فإذا وجدت صانعها الماهر مثل خالد الفيصل، تستطيع أن تعبر عن أي موضوع صعب، وتستطيع ان تحول أي معنى وعر إلى مادة شعرية جذابة ومحفزة على التذوق والتأمل.
* إعلامي وأكاديمي