منذ عدة سنوات اتصل بي الأمير خالد الفيصل هاتفياً ليخبرني أنه ينوي إنشاء (مؤسسة الفكر العربي). قال إن غرضها هو جمع أولى العلم والفكر بدعم من أهل المال المقتدرين.
ذكرت له أنني عضو في (منتدى الفكر العربي) منذ قرابة عقدين من الزمان. أضفت أن أعضاء هذا المنتدى يجتمعون في كل عام للنقاش والتشاور. ومع أن أهم مواضيع النقاش والدراسات تنشر في مطبوعات توزع على الأعضاء فليس للمنتدى عائد ملموس على فكر الناس في العالم العربي. لذلك كان رأيي أنه إذا كان عمل المؤسسة المقترحة بالمثل فلا فائدة فيها في البعد الفكري أو العلمي أو الثقافي في العالم العربي.
أضاف الأمير خالد أن المؤسسة المقترحة تختلف تماماً في أغراضها. أوضح أنه ينوي جمع ما لا يقل عن مليون دولار من أهل المال وذلك للقيام بمشاريع يكون غرضها رفع مستوى العلم والمعرفة في الوطن العربي. لأن الوضع الفكري بالعالم العربي قد تدنى مستواه فالمطلوب بالوقت الراهن هو إرساء ما يلزم من مشاريع محددة تتركز مهامها في رفعة الفكر بين الناس جميعاً. أسعدتني هذه الرؤية الثاقبة كثيراً وثابرت على المشاركة في أعمال المؤسسة دعم مشاريعها المختلفة.
إن دلت هذه المبادرة الطيبة على شيء إنما تدل على حكمته وشعوره الفياض بالمسؤولية كمفكر عربي مقتدر. إنه يؤمن بأن الثقافة هي سلاحنا الأمثل لمحاربة الفقر والتخلف. يعتقد كذلك أن المؤسسات الأهلية يجب أن تلعب دوراً أساسياً في نشر العلم والمعرفة بجانب ما تقوم به المؤسسات الحكومية. لذلك فقد بادر بإنشاء (مؤسسة الفكر العربي) لدعم المشاريع التي تؤهل ذلك على نطاق واسع. كان هو أول من تطوع بقسط من ماله الخاص لهذا الغرض، وبات يحث من اقتدر على المشاركة في إرساء المبادرة.
يذكرني الأمير خالد بوالده المرحوم فيصل بن عبدالعزيز آل سعود في تواضعه الجمّ ومعاملته لكل الناس بلطف وهدوء واحترام تام. إنه يحاور أرقى العلماء وأقل الناس مكانة وكأنهم سواسية. يستمع إلى كل متحدث وعندما يرد يثبت أنه قد أنصت جيداً وفكر فيما قيل. كلما أدلى برأيه بالموافقة أو بالإضافة إلى الموضوع يقوم بذلك بحكمة خارقة.
ليس هناك من شك في هذه الصفة الحميدة تمثل أهم بنود المنهج العلمي الذي أرسى مبادئه علماء الحضارة الإسلامية الشاهقة مثل ابن الهيثم وابن النفيس وأبويوسف الكندي.
علمنا هؤلاء الأمجاد أن المنهج العلمي يتطلب أن يتقبل المرء رأي الآخر إذا ما اتضح أنه يحمل الجديد أيا كان مصدره من أعظم المفكرين إلى أقل المقتدرين ذهنياً أو مهما كان أصل المعلومة ومذهب أو ملّة صاحبها. لذلك يحرص الأمير خالد على حضور كل الندوات في اجتماعات (مؤسسة الفكر العربي) والمشاركة في النقاش ودعم الجديد من أفكار مطروحة.
قد نبع الحس الفكري والثقافي للأمير خالد من مشاعره الفنية المرهفة. فإضافة إلى شعره الفياض بالمشاعر الإنسانية الرقيقة فهو فنان متميز تنقل لنا لوحاته الجميلة تجلياته وكأنها ينابيع فوارة يتوه في خريرها فكر الناظرين. وكلما ازداد الناظر تأملاً كلما اتسع أفق ما يراه العقل من تجسيد للحس الفكري الناضج والموهبة الفنية الراقية.
تأكيداً لحرصه على التمعن في حقائق ودقائق الأمور قبل الخوض في أغوارها فقد سألني مرة عن صور الصحراء العربية من الفضاء. سألته لماذا تود مثل هذه الصور التي نستخدمها في البحث العلمي في أصل الصحراء وأشكال تضاريسها وتاريخ تطورها؟
أخبرني أنه ينوي أن تحتوي بعض لوحاته الفنية على إيحاء من الصحاري. لذلك فقد آثر أن يدرس أشكالها في صور الفضاء حيث تتضح كما تراها الصقور من الأعالي. إذا ليس الفن الناضج هو الزج في تدوين ما يتراءى للفنان من مشاعر داخلية فقط ولكن يجب أيضاً أن توضع الأمور في نطاق أوسع يدل محتواه على فكر ودراسة وتعمق.
يجب على الجيل الصاعد من أبناء الأمة العربية أن يحتذوا بمثل هذا الرجل النبيل. مساره في الحياة يعتبر قدوة طيبة وكذلك عمله الدؤوب لدعم التقدم الفكري والثقافي بين أهله وزملائه ووطنه. لقد أثبت الأمير خالد الفيصل أن الحرص على جمع العلم والمعرفة يزيد من ثقة الإنسان بنفسه، وهذا يزيد من احترام الناس للفرد. عندئذ يستطيع المرء أن يخدم مجتمعه بالعطاء في سبيل رفعة الفكر التي تؤهل الرخاء وسعادة المجتمع.
* مدير مركز أبحاث الفضاء بجامعة بوسطن