كان أمراً مثيراً ومسعداً للغاية أن تتهيأ لي الفرصة لأكتب عن سمو الأمير الشاعر الكبير
خالد الفيصل الذي تشرفت بلقائه في مهرجان عكاظ ولم يكن غريباً أن يبهرني أو كما يبهرني وجه الشاعر فيه فإن خط الشعر في أبعاد الشخصية الإنسانية يمثل كل ما يدور في أعماقها من شعور وإحساس وعاطفة وموهبة يقودها العقل لتكتمل لها الحركة الحياتية وإبداع الشعر بعد ذلك كله دليل المقدرة على التعبير البليغ المؤثر في الناس، ومددت يدي إلى ما توفر لي من دواوين الشاعر الكبير الذي يكتب بعبقرية نادرة الشعر النبطي ولكن أولاً وأخيراً فإن الشعر هو الشعر مهما كانت لغته ومن حسن حظي أن أول ما صادفته هو ذلك الرحيق الذهبي السائل في شرايين الأسرة السعودية الغالية حتى إنه ليحيل جميع أفرادها إلى جينات واحدة متألقة متماسكة فشاعرنا الكبير يقول في أشد المواقف الإنسانية تأججاً وهو يتحدث عن والده العظيم جلالة الملك فيصل طيب الله ثراه في أقسى أوقات الفقد:
ولمحت في غور العيون تساؤلاً
هل أنجب الرجل العظيم رجالاً؟
لا ينثني عزمي وفيصلُ والدي
لا عشت إن لم أحتذيه خصالا
وإذا أحب هذا الشاعر الأمير وتغزل لم يصف المحاسن الظاهرة التي تأخذ العيون ولكنه ركز على حقيقة الحب وتأثيره في أعماق الإنسان والتعبير الصادق عنه بمختلف الحواس فيقول :
لو نسيت العمر ما انسى دمعتك
صرخة ذابت من عيونك دموع
ترتعش مرتاعة في وجنتك
وانتفض قلبي لها بين الضلوع
أزعجت صمت الليالي عبرتك
بالخفا ثوره وبالظاهر خشوع
وما أعتقد أن هناك شاعراً قديماً أو حديثاً في أي لغة من اللغات استطاع أن يصور فعل الحب في أعماق المحبين كما صوره ذلك الشاعر النابغة. ثم إن شاعرنا يصف الحب كما يحسه في تجربة ذاتية فيرتفع به إلى مرتبة التضحية بالروح ويقارن بين حبه وحب الآخر بما يعكس المدى الواسع بينهما فيقول :
ليه إذا حبيتك أكثر زدت قسوة
وإن دريت بحاجتي لك زدت جفوة
وإن عطيتك من حياتي ما تريده
ماكفاك وتحسب أن الحب نزوة
والله أني يا أحب الناس أحبك
والله أن الروح لو ترضيك فدوة
ويقول الأمير الشاعر عن حبه وذاته وعالمه الخاص وعوالم الناس وما يدور فيها فيقول: إنه حتى لو شارك الناس فيما يفعلون إلا أن ما في أعماقه فوق ذلك كله لأنه إنسان آخر لا يدركه أحد فيقول في ذلك:
يبكي الصوت و النظرات تشكي
والمعاني ولو صاحت حبيسه
يصمت الليل والتنهيد يحكي
والمغاليق في قلبي يبيسه
يا حبيبه سألت الليل أنا عنك
وكل نجم فقد مثلي أنيسه
ويغني شاعرنا الفارس لنفسه على صهوة جواده وقد تألق في أعماق إحساسه الصادق بنسبه الرفيع وإيمانه العميق بالله سبحانه وتعالى فيقول :
بنت الكحيله مهرتي
وخيالتي من كل اصيل
صدر وقطاة فلوتي
العنق والساق الطويل
وقع الحوافر نغمتي
وحداتنا رجع الصهيل
أبوي وجدي قدوتي
لو ما لهم عندي مثيل
بالدين تفخر عزوتي
والرمح والسيف الصقيل
وعندما يحس الشاعر أن ما في نفسه فوق جميع المدركات وأن جميع حواس الإنسان تعجز عن إدراكه أو التعبير عنه وأنه يضن به حتى على نفسه ويخفيه حتى عن خواطره. وهو يكون بذلك قال ما لم يقله غيره:
وأنا مع الذكرى
في نفس المكان في غير الزمان
تعطيني الذكرى ولا تأخذ أبدْ
تحكي لي الذكرى ولا تسّمع لأحدْ
وأنا عندي كلام ممنوع حتى عن الخاطر
لا ياخذه أمْسي ولا يقبله باكر
هذا الشاعر الكبير الذي أعيش معه منذ زمن طويل في ظلال أبعاد الموهبة الشعرية التي تتجاوز الزمان والمكان وفيها نفس من الرحمن يميز الله به من شاء من الإنسان كتب لي أن أتشرف بلقائه أخيراً عام 2008 بمهرجان عكاظ الشعري بجامعة الطائف وكان هذا اللقاء بالنسبة لي استراحة مكدود أشقاه الضنى وأتعبه الصراخ الذي ضاع في ضوضاء الحركة الثقافية العربية المعاصرة التي كادت تغلق الطريق في مصر والسعودية وكل البلاد العربية إذ كنت أصرخ منذ زمن طويل في آذان المتصارعين بأن صراع المدارس يزيد الشقاق ويثير الغبار فتختفي الحقيقة ويستفيد أهل الباطل وأن السلام يتيح لكل الزهور أن تتفتح بكل حرية فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. وأن الشعر العربي الموزون المقفى هو عمود الثقافة العربية ولسان اللغة العربية الخالدة « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» وأن الشعر الإفرنجي وأصله الأساطير الإغريقية وأبطالها الآلهة التي لا يستطيع المتلقي تقليدهم قد تحول على الزمن إلى مجرد مسلاة وملهاة وسرعان ما أخلى الطريق للدراما والمسرح والقصة والرواية، أما الشعر العربي فأبطاله وفرسانه ومثله العليا من البشر الذين يعايشون الناس كعنترة بن شداد في الشجاعة وحاتم الطائي في الكرم ومعن بن زائده في الحلم وهؤلاء من الناس الذين يتوهم المتلقي أنه يجاريهم وقد يسبقهم وهكذا يستحيل الشعر إلى أداة فاعلة في المسيرة الحياتية يدفعها إلى ما هو أحسن كما قال أبو تمام:
ولولا خِلالٌ سنَّها الشِّعْرُ مادرَى
بناةُ المعالي كيف تؤتى المكارم
ومن هنا يدفع الشعر خطوات الحياة ويعانقها ويصارعها ويتأثر بها إيجاباً وسلباً، ومن الإيجابيات التي نشكر الله عليها انتصار الحق حين انتصر الأمير خالد الفيصل للغة الفصحى والشعر العمودي في مهرجان عكاظ وصالَحَ بين المدرستين، وبلغني أنه قال أثناء الإعداد للمهرجان إنه لا يريد أن يسمع أو يقرأ كلمة واحدة بغير اللغة الفصحى في أيام المهرجان كله مما جعل الكثيرين يعيدون كتابة أبحاثهم وذلك ضاعف إيماني بأنه ليس غريباً أن تخرج دعوات هداية البشر من السعودية فإن الأمير خالد الفيصل أرسى في مدار الثقافة العربية المعاصرة قاعدتين في غاية الأهمية أولاهما أن الشعر العربي الفصيح والشعر العربي النبطي توأمان شقيقان وأن الثقافة العربية السعودية تقوم على الساقين معاً شأن الثقافة العربية في كل قطر عربي آخر تستوي ثقافته على العامية والفصحى معاً والقاعدة الثانية هي أن القطرية لا تناقض القومية فأنا أحب وطني جداً وأتشبث به وأتفانى فيه وفي نفس الوقت أحب قوميتي جداً وعروبتي جداً وأتشبث بها وأتفانى فيها وبهذا نبني جدار القومية العربية الشامخ من لبنات قوية متماسكة ولا نبنيه من رمال والقطر الذي يعطي الكيان الكبير يرتد إليه هذا العطاء أضعافاً مضاعفه بفضل هذا التجمع الذي يضمن لنا الوجود القوي القادر على مواجهة تيارات العولمة الكاسحة.
ألا ليت الأمير يعرف أنه حقق أسمى وأغلى أحلامي ولعله أدرك هذا عند سماعه قصيدتي في مهرجان عكاظ 2008 حيث إن هذه القصيدة تسكن أعماقي منذ طفولتي وقد كتبتها بمناسبة المهرجان وقلتها بكل مشاعري ولعل سموه أدرك هذا فضاعف الجائزة وهو على المنصة وكان مطلع القصيدة :
قد راعني أنَّ المنى تتدفق
والحلم بعد مشيبهِ يتحقق
يسقي جفاف الروح بين جوانحي
فتزيح أنقاض السنين وتورق
من فجر هذا العمر وهي رهينة
في خاطري لهفانة تتشوق
حتى أهاب بها اللقاء فأسرعت
كبداً إلى كبدِ تحِنُّ وتلصق
وتصالح الدنيا وقد لمع الندى
وجرى بدمع سرورها يترقرق
وأقسم أن الشعر في أعماقي لا سلطان لي عليه وأن أعماق نفسي صاغها الله كما أرادها سبحانه وهيأ لها من المؤثرات فيها بما يجاوز طاقة البشر وأن والدي رحمه الله هيأه القدر ليؤدي دوره في هذا المجال إذ إنه وهو شيخ كبير لم يتم دراسته الأزهرية وتفرغ للزراعة ولكنه كان مغرماً بالقراءة إلى حد مذهل وكان دولابه القديم فيه مع القرآن ودلائل الخيرات عدد كبير من كتب التراث القديمة وكان أهمها من وجهة نظره سيرة عنترة بن شداد وكانت من عشرين جزءاً ولعله أحب عنترة جداً لأنه كان شخصياً قوي البنية إلى حد كبير ولما تقدم به السن وضعف بصره، وكنت في كُتاب القرية لا أكاد أحسن القراءة ولكنه كان يدفعني ويدفع لي ويغريني ويرغمني على أن أقرأ له سيرة عنترة في الليل يومياً وكنا ننتهي من السيرة فنعيد القراءة مراراً وتكراراً حتى حفظت وأنا في هذه السن كل شعر عنترة ومعاصريه كعروة بن الورد وغيره وعايشت العرب شيبوب وشداد وقيس ومالك وغيرهم معايشة حميمة جداً حتى أني حتى الآن لا أكاد أتصور أن يكون هناك حد بين إنسان وآخر يتكلم العربية مع أن الأقدار كتبت علي أن أعمل في الأمانة العامة للجامعة العربية ثلاثين عاماً قاسيت فيها الأمرَّيْن ولكن إيماني بالعروبة لم يتزعزع والأهم من ذلك كله أن شخصية عنترة المناضل في سبيل حرية الإنسان حتى الموت دون أن يبتغي ثمناً هذه الشخصية قادتني دون أن أدري إلى أن أشغل بكل عمق بقضية الإنسان ثم استوت نفسي كما أرادها الله على أسس العروبة والشعر والتضحية في سبيل قضية الإنسان وأعانني الشعر على أن أكون قائداً لتجمعات ومظاهرات الطلبة في المدارس والجامعات ضد الاستعمار وجنود الإنجليز وأثارت أحلامي في صباي الأول شخصية البطل الأسطوري في شخص جلالة الملك الوالد عبد العزيز آل سعود الذي صنع وحده تقريباً بجواده ودرعه وذراعه وسيفه دولة واحدة تشمل شبه الجزيرة العربية كلها وكان ذلك مبعث خيال شعري في كثير من القصائد وشاءت الأقدار لي أن أراه رؤية العين وأنا شاب صغير وكنت طالباً في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية حين زار جلالته مصر عام 1943م، وزار الجامعة واجتمع له زعماء الطلبة وكنت منهم وبهرتني شخصيته الحقيقية وهامته الرفيعة الطويلة وحديثه الأخاذ وتلاقى الخيال والواقع والشعر وانداحت حدود الزمن وكتبت وألقيت ونشرت شعراً ناضحاً بالعروبة المختمرة في أعماقي وأغلى شعري ما يفوح منه عطر السعودية التي لا ينازعها مكان في صلتها بالسماء ونشرت من شعري في السعودية مجموعات منها ( الحب إذا غنى) التي صدرت عن نادي القصيم الأدبي ونعمت بالزيارات المكررة إلى مهرجان الجنادرية وإلى إثنينية عبد المقصود خوجه وإلى جامعة الإمام محمد بن سعود في العيد الذهبي للمملكة وإلى جامعة الملك سعود في الاحتفال بالرياض كعاصمة ثقافية وغير ذلك من المناسبات وكان لي شعر أثناء أداء فريضة الحج.
ومن نماذج شعري في مختلف المواقف.... في العيد الذهبي للملك عبد العزيز(50 سنة):
الله أرسى أساس «البيت» فأتلقت
فوق القواعد أركان وأوتاد
إذا ابتهلنا فهذا البيت قبلتنا
أو ارتحلنا فحجاج وقصاد
وقيض الله في بيت الهدى ملكاً
أيامه البيض أعياد وإسعاد
أجرى من الشرع أحكاماً لدولته
فكيف يترك شرع الله عباد؟
خمسون تشهد أن العدل رائده
وأنه في رحاب المجد شياد
ومن قصيدتي في زيارة الأمير (تركي) لمصر عام 1986 م
ملأت قلبي لما أن رأت عيني
على جبينك أطيافاً لنورين
وأيقظ الحلم في أعماق ذاكرتي
وزغرد القلب :جئتم ثاني اثنين
(عبد العزيز) و(تركي) قد رأيتهما
الأب والابن في عيني كصنوين
ومن قصيدتي (السعودية البلد الأمين)
تجرى بشرع الله كل أمورها
فإذا الجميع بظلها سعداء
واهتزَّ قلب الأرض من أفراحه
فانزاح عن صدر الرمال غطاء
لم يرمه حميماً يمس بناره
نور الحياة فتهلك الأحياء
بل ساقه (زيتاً) يقبض بنعمه
يرمي بها جوف الدجى فيضاء
ومن قصيدتي في العيد المئوي للمملكة:
ما كان سهلاً أن يقال عثارها
ليدور في فلك النجوم مدارها
حتى أراد الله جلَّ جلاله
فصحا إلى إيقاظها مغوارها
كانت زهور الروض بعثر غرسه
فتبددت بيد الرماح عطورها
حتى تبلج فجرها فتبسمت
وتلألأت في ثغرها أنوارها
واشتد فارسها بقلم شوكها
فتضوعت في كفه أزهارها
وأدار راحته فلم شتاتها
حتى استراحت في يديه أمورها
الشامخ العملاق ترهبه الدنى
وتخاف منه ضباعها ونسورها
قد قاد كوكبة يتوِّج نصرها
إن الملائك في الوغى أنصارها
كان الكتاب وسيفها في كفه
بهما أضاه يمينها ويسارها
حتى تسنمت الممالك دولة
في ظل عرش الله سار مسارها
بعزيمة الإنسان قام بناؤها
وبنعمة الرحمن قرّ قرارها
إن غاب فارسها الكبير فروحه
منها تضاء مروجها وقفارها
روح توارثها الكبار بهمة
تعنو لها في الحادثات كبارها
ومن قصيدتي حول الرياض العاصمة الثقافية:
تقف المدارك عند بابك خشعا
ويرى الجديد لدى تراثك منبعا
أنت الرياض لجنة قد لامست
كف السماء ترابها فتضوعا
واختار ربك بين أهلك ثلة
لتكون بين الخلق أول من وعى
حملوا ثقافة دينهم فتسنموا
للمجد في فلك الكواكب موقعا
لمعوا لأن هدى الثقافة فيهم
طبع لشعبهم وليس تطبعا
رضعوا الفصاحة في المهود فأوشكوا
أن يركبوا متن المنابر رضعا
من طول ما سقت البلاغة أرضهم
لو ينطق الحجر الأصم لأبدعا
وجرت بلاغتهم صدىً لحياتهم
سحراً يهز الراسيات موقعا
ذابت على وهج الحنين نفوسهم
وجرت صبابات هناك وأدمعا
وصليل أمجاد وركض فوراس
تأبى إذا حم الوغى أن ترجعا
ووجيب قلب ضح في أشواقه
فمضى يزلزل في الصدور الأضلعا
وشدا فهب الكون ينفض نومه
ويهز كل الكائنات لتسمعا
فتعلم الماء الخير وأصلحت
طير السماء أوتارها كي تسجعا
* شاعر - مصر