من الخصائص الفكرية والثقافية التي يتميز بها الأمير خالد الفيصل، خاصيتان اثنتان؛ أولاهما الإيمان القويُّ برسالة الثقافة وبدور العمل الثقافي في خدمة المجتمع، وثانيتهما الإرادة الحازمة في تحويل الأفكار والنظريات والرؤى والتأملات، إلى مبادرات ملموسة وبرامج تنفيذية وخطط عملية.
والإيمان برسالة الثقافة وبدورها في خدمة المجتمع، يقتضي التفاعلَ الحيَّ مع الواقع المعيش، والمعرفة الواسعة بطبيعته ومشاكله واحتياجات أفراد المجتمع على اختلاف فئاتهم وتعدد مشاربهم وتنوع ميولهم، والفهمَ الواضحَ للضرورات التي تدعو إلى تجديد البناء المجتمعي من خلال التغيير المنهجي لمستويات حياة الأفراد والجماعات. وبذلك تترجم رسالة الثقافة إلى عمل ثقافي ملموس، يقوم على أسس راسخة، ويهدف إلى تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يتطلع إليها الجمهور الواسع العريض.
أما الإرادة الحازمة في تنفيذ المشاريع الثقافية على الأرض، فمن تجلياتها السعيُ من أجل إقامة جسور للتعاون بين (أهل الفكر والثقافة) وبين (أهل المال والأعمال)، من منطلق الوعي بأن الطرفين يكمل أحدهما الآخر، وبأن التقاء الإرادتين حول الاقتناع بأهمية الثقافة في تحقيق التقدم والازدهار والرفاهية والرخاء، من شأنه أن يمهد السبيل الرحب نحو النهوض بالمجتمع من النواحي كافة، وليس فحسب من ناحية واحدة دون أخرى.
وتلك هي النظرية الواقعية المتكاملة الأركان التي آمن بها الأمير خالد الفيصل، ووطد العزم على تطبيقها بالتعاون والتكامل مع شركاء له يلتقي معهم على طريق العمل من أجل ازدهار الفكر والثقافة لتحقيق النماء والبناء والرخاء، في تجربة لا أبالغ إذا وصفتها بأنها فريدة من نوعها في العالم العربي، بوجه خاص.
إن التقاء الإرادتين، إرادة المثقف الذي ينشغل ذهنه بالقضايا الثقافية ويتطلع إلى تفعيل الثقافة، ويحلم بتمكين المثقفين من ممارسة دورهم في تغيير مجتمعاتهم نحو الأجمل والأكمل والأرقى، وإرادة رجل المال والأعمال الذي يهتم بالتوسّع في استثمار أمواله وتحقيق الأرباح لأعماله وبلوغ الأهداف الاقتصادية التي خطط لها، التقاء هاتين الإرادتين على هذا المستوى، يشكل صيغة مثلى للتعاون البنَّاء المنتج والمثمر الذي يُفضي إلى تحقيق الأهداف المشتركة الجامعة بين بناء الثقافة ونماء المال.
وإذا تأملنا في هذه النظرية الواقعية التي تبناها الأمير خالد الفيصل وتحمس لها ونجح في تطبيقها نجاحاً ملموساً، نجد أن لها أصلاً في الحضارة الإسلامية، وفي الثقافة الإسلامية، وفي التقاليد والأعراف التي عاشت عليها الأجيال السابقة، خصوصاً في عصور الازدهار والتألق الثقافي والإبداع الحضاري. فلقد كان للوقف الإسلامي دور في خدمة المجتمع وفي النهوض بالتعليم وفي إنعاش الثقافة الإسلامية بصورة عامة، حيث كانت طائفة ممن أنعم الله عليهم بالمال، يوقفون جزءاً من ممتلكاتهم على المساجد ومعاهد العلم والمستشفيات ومنشآت أخرى، لأغراض علمية وتعليمية وثقافية واجتماعية، ابتغاء الثواب من الله تعالى. فكان من نتيجة هذا الإنفاق للأموال والتبرع بالعقار وبالأراضي الزراعية لوجه الله، رواج العلم وازدهار الثقافة العربية الإسلامية، وبروز أعلام في شتى صنوف المعرفة نشأوا في تلك البيئات المفعمة بأعمال الخير، قدموا للثقافة العربية الإسلامية جليل الخدمات.
فإذا تجاوزنا عن الفارق بين الوقف الإسلامي الذي له شروطه وقواعده وأحكامه، وبين الإسهام في دعم العمل الثقافي من خلال التبرعات والهبات وتحمّل تكاليف الأنشطة الثقافية، سواء من خلال المؤسسات والجمعيات الأهلية، أو بدعم العمل الحكومي في هذه المجالات، فإننا نجد أن جوهر الأمر لا يختلف في كلتا الحالتين، مع مراعاة الظروف والاعتبارات الأخرى التي تميز بين حالة وأخرى.
من هذا المنطلق كانت المبادرة الثقافية التي أقدم عليها الأمير خالد الفيصل، بالتعاون والشراكة مع نخبة من أهل العلم والثقافة وصفوة من رجال المال والأعمال، بتأسيس مؤسسة الفكر العربي، تجربة ناجحة إلى حدّ بعيد، غنية بالدروس، بالغة التميز، بل هي رائدة غير مسبوقة، تقوم شاهدةً على التطبيق المحكم المتقن الناجح للنظرية الثقافية التي آمن بها الأمير خالد، وتبنَّاها وشرع في تنفيذ جوانب منها في محيطه المحلي، عندما كان أميراً لمنطقة عسير التي جعل منها مثابة للسياحة الثقافية في المملكة العربية السعودية.
إن مؤسسة الفكر العربي، التي هي مبادرة تضامنية بين الفكر والمال، هي صـرح شامخ من صــروح العمل الثقافي الأهلي، وهي من بنات الأفكار المبدعة للأمير خالد. وقد أصبحت هذه المؤسسة منجماً لعديد من المبادرات الثقافية والفكرية المهمة والمتميزة، منها (المنتدى العربي للتربية والتعليم) الذي كانت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو- واتحاد جامعات العالم الإسلامي التابع لها، شريكين في الدورات الست التي عقدها حتى الآن، إلى جانب منظمات أخرى، وانتهى إلى رسم خريطة طريق لتطوير مناهج التربية والتعليم وتجديد فلسفتها وتحديث طرق التدريس وتحسين أساليب تنفيذ السياسات التعليمية في الدول العربية. وتعزيزاً لهذه الجهود المبتكرة المتجددة، أطلقت مؤسسة الفكر العربي مشروع (كتاب يصدر .. أمة تتقدم) في (مؤتمر حركة التأليف والنشر) الذي عقدته المؤسسة أخيراً، إضافة إلى المؤتمرات التي تعقدها المؤسسة، وفي مقدمتها المؤتمر السنوي، والتي حضرت شخصياً خمسة منها، و(تقرير التنمية الثقافية) السنوي الذي هو في حد ذاته مبادرة عربية ثقافية رائدة.
ومن تجليات التفكير المؤسساتي الثاقب النظر المستشرف للمستقبل، الدور الكبير الذي قام به مع أشقائه الأمراء أبناء الملك فيصل، يرحمه الله، في تأسيس (مؤسسة الملك فيصل الخيرية) وإسهامه المتميز الفاعل والمؤثر في تنظيم هذه المؤسسة وتوسيع دائرة نشاطها وتفعيل رسالتها الخيرية الإنسانية التنموية. وقد اختاره أشقاؤه ليكون مديراً عاماً لهذه المؤسسة ورئيساً لهيئة جائزة الملك فيصل العالمية. ومن خلال هذا الموقع الرفيع، قدم الأمير خالد للمجتمع المحلي وللمجتمعات العربية الإسلامية، خدمات جلى في المجالات التي تعمل فيها هذه المؤسسة، وفي المشروعات الخيرية التي تنفذها.
فهذه المؤسسة الخيرية العالمية، هي مع مؤسسة الفكر العربي، ومع مبادرات أخرى متعددة أطلقها الأمير خالد، مشروعات ثقافية إنمائية ترقى إلى مستوى المشروعات الحضارية الكبرى.
إن التفكير المؤسّساتي لدى الأمير خالد الفيصل، حقيقة ثابتة تترجمها أعماله وإنجازاتها. وهو بذلك شخصية جديرة بكل التقدير والاحترام.
* المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو-