قيل عن الثقافة قديماً (أن تعرف شيئاً عن كل شيء، وأن تعرف كل شيء عن شيء)، وظل القول منتجاً صالحاً للاستخدام ردحاً طويلاً من الزمن.
ثم ظهر من اعترض عليه، ورأى فيه شكلاً من أشكال إقصاء الاختصاص كمرحلة أولى، ثم إلغاء الاختصاص إلغاءً نهائياً كمرحلة نهائية حاسمة. وبين معسكرَيْ القولَيْن دارت رحى حرب كلامية وإعلامية لما تحسم بعد حتى يومنا هذا.
لكن أياً من القولين بدأ يشعر شعوراً غريباً بالغربة عن ذاته وعن الآخرين، في ظل تراجع الثقافة أمام سطوة العلوم، بمعنى أن الثقافة المعرفية بدأت تنحسر تدريجياً عن حياتنا الثقافية.
ولتكون الصورة أكثر وضوحاً في أذهان القارئ الكريم نقول إن الساحة الثقافية أخذت تشكو من غياب الأسماء الكبيرة التي تمتلك قاعدة معرفية واسعة، بمعنى آخر لم يعد أمراً عسيراً أن تعثر على شاعر متمكن من أدواته الشعرية، يملك خيالاً خصباً ومتحفاً شعرياً يزخر بالصور البديعة التي تجعله محلقاً في سماء عالية من الإلهام، لكن هذا الشاعر قد لا يكون متمكناً من النحو العربي، وقد تكون ثقافته التاريخية متواضعة، والأمر ذاته ينطبق على الناقد التشكيلي الذي يصول ويجول في اختصاصه، حتى إذا تناولت موضوعاً آخر قريباً من اختصاصه وجدته ضحل المعرفة، يتذرع بحجج واهنة واهية، يبرر بها تقصيره في تعميق وتوسيع قاعدته المعرفية، ولا يسعك أمام التعامل مع هذين النموذجين إلا أن تتحسر على تلك الأيام التي كان فيها المثقف مكتبة متنقلة، تستطيع فيها العثور على ما يشبع نهمك الثقافي ويروي ظمأك المعرفي.
وهنا قد يتدخل أحدهم فيحاول تبرئة ساحة ذلك الشاعر أو ذاك الفنان التشكيلي فيسوق حجة لا يستطيع حتى هو في قرارة نفسه الاقتناع بها، فكيف يريد إقناع الآخرين بها؟!
هذه الحجة تقول إن انتشار المعرفة ثمرة شهية من ثمار التكنولوجيا قد أغنى المثقف عن إرهاق عقله بذلك الكم الهائل من الثقافة والمعرفة، ويضرب على ذلك مثالاً بأن محرك البحث في (الإنترنت) يأتيك بكم ضخم من المعلومات عن الموضوع الذي تود تجميع المعلومات عنه، حتى تصبح في حيرة؛ ماذا ستأخذ من هذه المعلومات؟!
في جو تتناثر فيه المعرفة في كل مكان ما حاجة المثقف لإشغال ذهنه؟ ولعلهم يشيرون إلى تعليق أحدهم على أن فلاناً حفظ كتاباً ما، فعلق ذلك قائلاً ما فعل شيئاً إلا أنه أضاف إلى المكتبات نسخة جديدة من ذلك الكتاب.
إن غياب المثقف الشامل في عصرنا هذا يُعَدّ نقمة من نقم التكنولوجيا علينا، لا نعمة من نعمها. وبين الاعتماد عليها والاعتماد على العقل، الذي يجب أن يكون المرجع المعرفي الأساسي، يقف المثقف في مكان التردد، ويمر الوقت مسرعاً دون أن يمتلك القدرة على الانحياز لهذا المعسكر أو ذاك.
وقبل أن نُتَّهم بمعاداة التكنولوجيا حبذا لو تذكرنا أن كل ما ننعم به من ثمراتها اليوم كان نتاج عقول جبارة، امتلكت قاعدة معرفية هائلة، جعلتها تحذف كلمة المستحيل من تفكيرها؛ فأوصلتنا إلى ما نحن فيه من حضارة إنسانية، لم تكن الأجيال السابقة تحلم بالوصول إليها يوماً ما.
المثقف الشامل:
حتى إذا وصلنا إلى الشخصية الثقافية ذات الباع الطويل العريض في دنيا الفكر والمعرفة، ونعني بتلك الشخصية سمو الأمير خالد الفيصل، وجدنا أنفسنا مسلِّمين بصحة التعريف القديم للثقافة؛ فأنت هنا في حضرة عقل موسوعي شامل، ضرب بسهم وافر وحاز القدح المعلى في كل ضرب من ضروب الثقافة، وتنسفح ينابيع العطاء لتغرف اليد كما العقل منها أشهى وأصفى شراب.
فبينما تتأمل الوثبات الشعرية التي تأخذ بمجامع قلبك وأنت تسرّح بصرك في رياض قصائده الوارفة تثب إلى ذهنك تلك العقلية الرشيدة الحكيمة المختصة في علم من أعقد العلوم المعاصرة، ونقصد هنا علم الإدارة، ذلك العلم الذي استطاع سمو الأمير خالد الفيصل بممارسة ما أتقنه نظرياً على أرض الواقع في جعله علماً يقرّب شقة الخلاف التاريخية بين التنظير والتطبيق، وجعل من طريقة سموه في إدارة الأمور مدرسة يُرجع إليها، يجلس على مقاعدها كبار علماء الإدارة، يحملون القراطيس بعد القراطيس؛ ليسوّدوا بياض صفحاتها بمداد ما سال على لسانه من كلمات مضيئة في مجال الإدارة، وما تلقفوه من كنوز تطبيقها بشكل سليم على أرض الواقع.
أميرنا المحبوب كُتب حية، يرجع إليها الباحثون، يقرؤون الكتاب الواحد مرات ومرات، وفي كل صفحة يقعون على فكرة منمقة، وحكمة رصينة، وتجربة ناجحة.. فمدرسة الحياة صقلت هذا العقل الجبار؛ فآلى على نفسه أن يقدم للأجيال خلاصة الحكمة مقطرة في أروع مسيل.
الشاعر المجلّي:
كان الشعر على موعد مع ولادة شاعرنا، يعرف السحر الذي تملكه لغة الضاد، ويملك وسائل الوصول إلى محاراتها مهما كانت بعيدة في أعماق البحور السحيقة؛ ليستخرج منها أروع اللآلئ.
أما بدايات الإمساك بالقيثارة الشعرية لإتقان عزف أروع الألحان عليها فتعود إلى السنوات الأولى من عهد اليفاعة.
وعن تلك البدايات يقول سمو الأمير: «انفعلت ذات يوم بحدث.. أحسست بكلمات تتفاعل في داخلي، وتنساب على لساني تعبيراً عن هذا الانفعال، واستحساناً لمن حولي. هكذا عانقت الكلمة لأول مرة وعانقتني هي، ولا أدري أين بدأ العناق؟
.. وأنا لم أحاول أن أكون شاعراً لأن في الأسرة شعراء، ثم إن أخي عبد الله هو أستاذي، نعم أعترف بذلك، لا أدري لماذا تفجرت العواطف والأحاسيس وشقّت مجرى للشعر؟ (مجرى سال منه شعر يطرب الخاطر، ونثر يسكن الفؤاد، وتهفو له نبضات القلوب) وجدت نفسي قادراً على تقديم شيء.. ولي ثقة بأن لدي بعض الجمهور، ولكن ليس الغرور.. كل ما أستطيع تأكيده أن لدي جمهوراً من المتلقين في ميدان الشعر، ومثله في ميدان الفن التشكيلي».
ولا بأس من التذكير بأن محاولات الأمير الشاعر لكتابة الشعر بدأت وهو في نحو الرابعة عشرة عندما كان في مدرسة الطائف النموذجية.
وعندما يقرر سمو الأمير خالد الفيصل أن يطلق فرسه الشقراء، التي تطغى على المرابط مقتحمة مضماراً فسيحاً من الشعر المصفى النمير، فعلى القارئ أن يهيئ خياله الصياد لدخول معرض رائع من الصور؛ فأنت تقف هنا أمام ريشة، زرع الله في عينيها قرون استشعار لكل التفاتة جمال يحاول أن تتسربل بالنقاب، لكن ريشة الأمير الشاعر تجعله طوعاً لا كرهاً ينساق وراء حبالها الأمّارة بابتكار كل ما يلبي عطش الروح لفكرة نضجت على نار هادئة؛ لذلك يمكن القول بكل بساطة إن وجباته الشعرية متنوعة، وهاكم وجبة يهضمها الوجدان مستسلماً لسهولتها المعقدة. يقول أميرنا الشاعر في قصيدة بعنوان (غريب الدار):
غريب الدار ومناي التسلّي
أسلّي خاطري عن حب خلّي
سمعت الشور من قاصر معرفه
يحسب البُعد عن داره يسلّي
أسافر عنه من ديرة لديرة
عساي أسلاه لكن ما حصلّي
وأهوجس فيه وأنسى أني نسيته
وأفكر في ليال قد مضلّي
أنا لا جيت ابا أنساه لثوابي
خياله وانهمر دمعي يهلّي
وشوفه واقفاً من دون دمعي
حبيب القلب فيه يحلي
دعاني يا غريب الدار عوّد
ترى مالك محل إلا محلّي
مكانك في عيوني يا عيوني
وصدري من عناقك ما يملّي
والآن بعيداً عن التصريح بالروعة الكامنة في البيت الأول نتساءل: ألا يذكرنا هذا البيت ببيت المتنبي:
ولكنك الدنيا إليّ حبيبة
فما عنكَ لي إلاّ إليك ذهابُ
هو يذكرنا بذلك البيت، ويستفزّ فينا قدرة التصور للتفكير في حجم العلاقة الجدلية بين الحبيب الذي سكن القلب واستقر في الخاطر، إلى درجة جعلت الخاطر يفكر في التسلل من سجنه ليعرف كيف يفكّر فيه بحرية.
والبيت أيضاً يذكِّر ببيت للشاعر الراحل نذار قباني يقول فيه:
اتركيني حتّى أفكّر فيكِ
وابعدي خطوتينِ كي أشتهيكِ
في بيت سموّ الأمير طاقة شعرية خلاّقة، تملك القدرة على تحرير ذراتها التحريضية، ونثرها قوس قزح يؤدي الوظيفة المطلوبة من الشعر، ألا وهي تحريض الخيال ليلد الصور الطبيعية ولادة طبيعية دون اللجوء إلى العمل الجراحي القسري.
يقول شاعرنا الأمير في قصيدة أخرى:
شربت من الهوى وأفعمت كاسي
ونبَّهت العيون من النعاسِ
أجاوب صادح القُمري وأغنِّي
وأذكِّر بالهوى من كان ناسي
ونجمة صبح ترقص من طربها
على نغمات يطردن العماسِ
وأنا لي من بغيت أمرٍ عطيته
جميع حقوقه وطرَّقت راسي
حلاة العمر تلحق ما تريده
وياتي ليِّنٍ ما كان قاسي
ولى من الزَّمان أقبل ربيعه
خذ من زهور ريضانه لباسِ
ترى للوقت هزَّه وانقلابه
تهزّ جبالها لو هي رواسي
عليك بساعة الفرحة تراها
ترد الرَّوح من عقب المآسي
البيت الأول من هذه القصيدة يدعو إلى الذاكرة بيت الشاعر الراحل بدوي الجبل الذي يقول فيه:
يا من سقانا كؤوس الهجر مترعة
بكى بساطُ الهوى لمّا طويناهُ
لكن كأس الأمير هنا كأس مترعة حباً وليس هجراً؛ لذلك تشعر الشفاه بعذوبة ما حوت من معانٍ تشير إلى قدرة الشاعر على اصطياد المعاني البديعة.
الإنسان الصادق:
لا يسع البحث لتناول شمائل سمو الأمير، لكن بيتاً من الشعر يلحّ على ذهني كلما عادت إلى الذاكرة أنسام خصاله الإنسانية، يقول البيت:
لستَ تسطيع أن تكون إلهاً
فإذا اسطعت فلتكنْ إنساناً
وأميرنا المحبوب نغم إنساني طليق، يجوب الدنيا رقة طبع ودماثة خُلق ونقاء سريرة، وحسبك بالمرور السريع قرب روضة مئناف لتعرف شمائل ورودها ورياحينها. أما الحديث عن شمائل الإنسانية التي سكبها الله في قلبه الطهور فميدان فسيح يضيق عنه مجال البحث، وما زال سمو الأمير يداً مبسوطة بالخير، يتمثل قول الله تعالى في كل عمل يقدم عليه:
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ *وََأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
أما حديثه بنعمة ربه فيترجمه مزيداً من العطاء، وفيه يصح قول الشاعر:
تراه إذا ما جئتَهُ متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائلُهْ
هو البحرُ من أيّ النواحي أتيتهُ
فلجّته المعروفُ والجودُ ساحُلهْ
إنه الإنسان الصادق مع ربه، الذي يسعى جاهداً ليكون عبداً شكوراً، وهو الإنسان الصادق مع نفسه؛ لذلك حظي بمحبة وتقدير كل من سمع به أو أسعفه الحظ بالتعرف على شخصه النبيل.
وردة محبة
على صدر المثقف الشامخ:
يبقى الحديث عن الأمير الغالي سمو الأمير خالد الفيصل رحلة عذبة في عالمٍ فسيح، عالم الإنسان الذي وهبه الله سمات النُّبْل، وأجرى فعل الخير في قلبه وعلى يديه، والله يرزق من يشاء بغير حساب، وآتاه الحكمة، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. يبقى الحديث عن المثقف الشامخ أميرنا المحبوب متعة، يشعر القلم بها كلما انسكب حرف على الطرس، فسلِمَ الأمير دوحة عطاء، وجعل الله عمره المديد أفياء خير عميم، يأوي إليها المكدود فيجد فيها السكينة والعطاء.
* فنانة تشكيلية
- مديرة الفنون الجميلة بدمشق